الجنة فى بيوتنا
الجنة فى بيوتنا
الجنة فى بيوتنا
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 حقيقة النفس الانسانية

اذهب الى الأسفل 
2 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
حنان
مشرف
مشرف
حنان


انثى
عدد الرسائل : 202
احترامك لقوانين المنتدى : حقيقة النفس الانسانية 31010
دعاء : حقيقة النفس الانسانية 15781610
الاوسمة : 3
تاريخ التسجيل : 15/05/2008

حقيقة النفس الانسانية Empty
مُساهمةموضوع: حقيقة النفس الانسانية   حقيقة النفس الانسانية I_icon_minitimeالثلاثاء 14 أكتوبر - 20:50

حقيقة النفس الإنسانية
الشيخ الدكتور سفر بن عبدالرحمن الحوالي
من كتاب: ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي



تمهيد
إن من ميزات هذا الدين الكبرى أنه نزل بالحق والعدل الذي قامت عليه السماوات والأرض: أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الفرقان:6] وكلما ازداد البشر نظراً في الآيات الآفاقية والنفسية والقرآنية أبصروا من شواهد التطابق العجيب والتوافق الدقيق ما ينطق بأن هذا الدين هو الحق, وأن فاطر النظام الكوني ومنزل الوحي الديني واحد لا شريك له.

فالنظر السليم لا يرى في خلق الرحمن من تفاوت ولا يرى في وحي الرحمن من اختلاف , لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا, ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً.

والنفس الإنسانية هي موضوع الوحي كتاباً وسنة والمخاطب به، فما نزلت الكتب وأرسلت الرسل إلا لهذا الإنسان -الذي لم يكن شيئاً مذكوراً- بياناً لغاية خلقه وحكمة وجـوده وتزكية لنفسه, وهداية إلى طريق الحق والصلاح، وتحـذيراً من سبل الضلال والفساد, وتعريفاً له بصفات معبوده تعالى -الذي معرفته أشرف أنواع العلوم والمعارف وأعظمها أثراً في صلاح الإنسان- وإخباراً له بمصيره إن أطاع أو عصى.

فالدين دين الله والنفس خلق الله, والله تعالى أحكم الحاكمين وهو الغني الحميد , فلهذا لم يشرع لها من الدين إلا ما يتفق وطبعها ويتناسق وحقيقتها، ويملأ كل جوانبها، ويشبع كل رغباتها, لكن في حدود مقدرة وضوابط مقررة تحفظ لهذا الإنسان سعادته وتكفل صلاحه, ولا يعود ضرر تجاوزها إلا عليه وحده, قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:30].

وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما من مولود إلا ويولد على الفطرة, فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه }.

ولهذا كانت معرفة النفس الإنسانية كما هي في القرآن والسنة من أجلى الأدلة كشفاً عن حقيقة الإيمان الشرعية، ومما يؤكد ذلك أنه يتفق مع منهج الوحي في الاستدلال والمناظرة , ذلك المنهج الفطري الذي يخاطب البديهة بوضوح وتيسير بعيداً عن الخوض في القضايا الذهنية المعقدة.

فمعرفة الحقيقة النفسية لا تحتاج إلى عناء في الاستدلال والفهم, بل تقوم على بدهيات مسلمة يحسها كل إنسان من نفسه -مؤمناً أو كافراً- ولا ينكرها إلا مكابر مغالط, ومن هنا كثر الاستدلال على التوحيد بما في حقيقة الإنسان من صفات كالعجز والجهل والضعف والافتقار, وهي من أقوى طرق الاسـتدلال وأجلاها لكل ذي لب.

ويتبع ذلك الاستدلال على ضرورة الاستقامة على دين الله واتباع شرعه بما في النفس البشرية من صفات: كالظلم، والجهل، والطمع، والشح، والهلع، والكبر، وحب الخصام , والإقرار وقت الشدة بما تنكره حال الرخاء!!

وانطلاقاً من حقيقة مسلمة في التصور الإسلامي عامة، وهي: أن الوحي إنما نزل لتزكية النفس الإنسانية وتقويم عملها؛ ابتداءً من إصلاح الخواطر والإرادات, وانتهاءً بإصلاح الأعمال والحركات, رأيت أن أعرض حقيقة هذه النفس وطبيعة عملها توصلاً بذلك إلى تحويل حقيقة الإيمان الشرعية من مسألة جدلية إلى قضية مسلمة بدهية كتلك؛ أي: إنني سأحاول -ما أقدرني الله عليه- إيضاح العلاقة التطابقية بين الحقيقة البدهية للنفس البشرية وبين المفهوم الصحيح للعبادة؛ ليظهر أي التصورين الصادق المصيب؛ التصور السلفي أم التصور الإرجائي؟
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
حنان
مشرف
مشرف
حنان


انثى
عدد الرسائل : 202
احترامك لقوانين المنتدى : حقيقة النفس الانسانية 31010
دعاء : حقيقة النفس الانسانية 15781610
الاوسمة : 3
تاريخ التسجيل : 15/05/2008

حقيقة النفس الانسانية Empty
مُساهمةموضوع: رد: حقيقة النفس الانسانية   حقيقة النفس الانسانية I_icon_minitimeالثلاثاء 14 أكتوبر - 21:35

إن الناظر لحقيقة النفس الإنسانية وطبيعة عملها في الكتاب والسنة وأقوال العلماء الربانيين المستمدة منهما , يجد أن ذلك يقوم على قضايا بدهية يأخذ بعضها برقاب بعض:
*والقضية الأولى: أن كل إنسان عامل.
يقول تعالى: حقيقة النفس الانسانية SQoos يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ حقيقة النفس الانسانية EQoos[الإنشقاق:6].
أي: يا أيها الإنسان إنك عامل إلى ربك عملاً فملاقيه به , خيراً كان عملك ذلك أو شراً , يقول: فليكن عملك مما ينجيك من سخطه ويوجب لك رضاه , ولا يكن مما يسخطه عليك فتهلك[77] .
قال قتادة : 'إن كدحك يابن آدم لضعيف , فمن استطاع أن يكون كدحه في طاعة الله فليفعل ولا قوة إلا بالله'[78] ويدل لذلك قوله تعالى: حقيقة النفس الانسانية SQoosلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ حقيقة النفس الانسانية EQoos[البلد:4].
على المعنى الظاهر المختار في تفسيرها [79] وعلى هذا جاء الحديث الصحيح: {كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها حقيقة النفس الانسانية Tips } والحديث الصحيح: {أصدق الأسماء حارث وهمام حقيقة النفس الانسانية Tips }.
فالغدو وبيع النفس عمل مشترك لكل حي، وإنما الفارق أن المطيع يعتق والعاصي يوبق.
وكل إنسان لا يخلو من الحرث والهم , أي: العمل والإرادة، فالتسمية بحارث وهمام وصف للطبيعة البشرية على ما هي عليه دون اقتضاء مدح أو ذم للمسمى، ولهذا كانا أصدق الأسماء.
و بدهي أن العمل هو أثر النية والإرادة، فكلُّ يعمل وفق ما يعتقد ويرى؛ قال تعالى:
حقيقة النفس الانسانية SQoosقُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً حقيقة النفس الانسانية EQoos[الإسراء:84]
فهذا إخبار بأن كل إنسان يعمل على شاكلته قال ابن عباس : [[على ناحيته حقيقة النفس الانسانية Tips ]] .
وقال مجاهد : [[على حدته وطبيعته حقيقة النفس الانسانية Tips ]].
وقال قتادة : [[على نيته حقيقة النفس الانسانية Tips ]].
وقال ابن زيد : [[على دينه حقيقة النفس الانسانية Tips ]] [80] ومؤدى هذه الأقوال واحد.
والمقصود أن الصلة بين الإيمان وبين العمل كالصلة بين العمل والحياة، فالإنسان بمقتضى كونه حياً حساساً هو كادح مكابد؛ أي: عامل دائب العمل , وأساس العمل هو الفكر والإرادة , ومعلوم أن الإنسان لا يخلو قط من الفكر والإرادة، وأنه لا بد لها من متعلق ما وأثر ما في القلب والجوارح , وليست حقيقة العمل إلا هذا.
فإن لم يكن للفكر والهم والإرادة أثر يوافقها، أو نتيجة تطابقها، أو مظهر يصدقها لم تكن فكرة ولا إرادة على الحقيقة , وإنما هي عارض من عوارض الخاطر وعليه لا يصح أن تسمى إيماناً أو اعتقاداً.
وعلى قدر صدق الفكرة وقوة الإرادة يكون تحقق العمل في الخارج إن خيراً وإن شراً , فما يظهر على الجوارح هو الجزء الخارجي من الحقيقة الإنسانية المركبة، ومن عملي القلب والجوارح تركيباً مزجياً عضوياً, كالسفينة التي أسفلها تحت سطح الماء وأعلاها فوقه، وهذا ما يطابق تماماً الحقيقة المركبة للإيمان الشرعي. [81]
يصدق هذا قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب حقيقة النفس الانسانية Tips } [82] فهذا مع دلالته على الارتباط العضوي بين الإرادة والعمل يؤكد مهمة الدين التي هي إصلاح الأصل ليصلح الفرع والأثر .
وهذه العبارة النبوية أبلغ من العبارة التي قالها أبو هريرة رضي الله عنه وهي: [[ القلب ملك والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده! حقيقة النفس الانسانية Tips ]] لأن العلاقة بين القلب والأعضاء أقوى منها بين الملك والجنود، لا سيما والكلام في مورد الحديث عن الإيمان, وأصل محل الإيمان القلب, ويسري في الجوارح بحسب قوته في الأصل كالطاقة في الآلة، والملك قد يفسد وبعض جنده صالح وبالعكس بخلاف القلب؛ فإن الجسد تابع له لا يخرج عن إرادته ولا يتحرك بدونه.
فكلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كشف لعين الحقيقة , وكلام الصحابي رضي الله عنه تقريب وتمثيل. [83]
هذا وقد أنزل الله تعالى الكتب وأرسل الرسل لتدعو هذا الإنسان الكادح بطبعه العامل -بمقتضى حياته- أن يكون كدحه -أي: عمل قلبه وجوارحه- على ما شرع له الله، أي وفق الغاية التي خلقه لأجلها: حقيقة النفس الانسانية SQoosوَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ حقيقة النفس الانسانية EQoos[الذاريات:56].
فإن لم يجب داعي الله ويؤمن برسالاته فإن عمله ينصرف قطعا إلى ضد ذلك , أي: أنه إن لم يكن عابداً لله فإنه عابد للشيطان لا محالة: حقيقة النفس الانسانية SQoosأَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ حقيقة النفس الانسانية EQoos[يس:60-61].
وهذا هو مفترق الطريق بين شطري الجماعة الإنسانية "المؤمنين والكافرين".
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
حنان
مشرف
مشرف
حنان


انثى
عدد الرسائل : 202
احترامك لقوانين المنتدى : حقيقة النفس الانسانية 31010
دعاء : حقيقة النفس الانسانية 15781610
الاوسمة : 3
تاريخ التسجيل : 15/05/2008

حقيقة النفس الانسانية Empty
مُساهمةموضوع: رد: حقيقة النفس الانسانية   حقيقة النفس الانسانية I_icon_minitimeالثلاثاء 14 أكتوبر - 21:38

وذلك أن حكمة الله تعالى في خلق الإنسان اقتضت أن يكون أمام الإنسان طريقان مختلفان: طريق الكفر وطريق الإيمان, وأن يسير في أيهما شاء ابتلاءً له وامتحاناً: حقيقة النفس الانسانية SQoosوَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ حقيقة النفس الانسانية EQoos[الكهف:29].
وكان مقتضى ذلك أن جعل للنفس البشرية في حركتها الجبلِّية الدائبة مصدرين متنافرين يمدانها بالطاقة والحركة بين حين وآخر- هما:
1- ذكر الله بالمعنى الشامل له, ومنه تدبر القرآن والتفكر في المخلوقات والآلاء والعلم النافع، وكل ما من شأنه أن يزكيها ويوقظها ويصلح خلجاتها وخواطرها، وما يقذفه الملك فيها من تصديق بالحق وإيعاد بالخير.
2- وسوسة الشيطان الذي يعبث بها ويغرها ويلهيها ويزين لها ويمكر بها، ويقذف فيها التكذيب بالحق والإيعاد بالشر. [84]
فللملك لمة وللشيطان لمة. والنفس كالرحى الدائرة؛ إما أن تستمد وقودها وطحينها من هذا أو من هذا ولا تقف عن العمل قط.
وهذه القضية وما يترتب عليها من قضايا تحدث عنها علماء الإسلام الربانيون , متخذينها منطلقا لإيضاح حقائق كبرى في معاملات القلوب مع الله تعالى وأسلوب تزكيتها.
يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله إيضاحاً لحديث ابن مسعود : ' {إن للملك لمة وللشيطان لمة.. حقيقة النفس الانسانية Tips } هذا الكلام الذي قاله ابن مسعود هو محفوظ عنه , وربما رفعه بعضهم إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وهو كلام جامع لأصول ما يكون من العبد من علم وعمل، من شعور وإرادة.
وذلك أن العبد له قوة الشعور والإحساس والإدراك وقوة الإرادة والحركة , وإحداهما أصل الثانية مستلزمة لها , والثانية مستلزمة للأولى ومكملة لها , فهو بالأولى يصدق بالحق ويكذب بالباطل , وبالثانية يحب النافع الملائم له ويبغض الضار المنافي له، [85] والله سبحانه خلق عباده على الفطرة التي فيها معرفة الحق والتصديق به ومعرفة الباطل والتكذيب به، ومعرفة النافع الملائم والمحبة له، ومعرفة الضار المنافي والبغض له بالفطرة.
فما كان حقاً موجوداً صدقت به الفطرة -يعني: من العلوم- وما كان حقاً نافعاً عرفته الفطرة واطمأنت إليه وذلك هو المعروف, وما كان باطلاً معدوماً كذبت به الفطرة فأبغضته فأنكرته, قال تعالى: حقيقة النفس الانسانية SQoosيَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ حقيقة النفس الانسانية EQoos[الأعراف:157].
والإنسان كما سماه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث قال: {أصدق الأسماء حارث وهمام حقيقة النفس الانسانية Tips } فهو دائماً يهمُّ ويعمل, لكنه لا يعمل إلا ما يرجو نفعه أو دفع مضرته, ولكن قد يكون ذلك الرجاء مبنياً على اعتقاد باطل, إما في نفس المقصود فلا يكون نافعاً ولا ضاراً, وإما في الوسيلة فلا تكون طريقاً إليه وهذا جهل، وقد يعلم أن هذا الشيء يضره ويفعله, ويعلم أنه ينفعه ويتركه؛ لأن ذلك العلم عارضه ما في نفسه من طلب لذة أخرى أو دفع ألم آخر جاهلاً ظالماً حيث قدم هذا على ذاك.
و إذا كان الإنسان لا يتحرك إلا راجياً , فالرجاء لا يكون إلا بما يلقى في نفسه من الإيعاد بالخير الذي هو طلب المحبوب أو فوات المكروه، فكل بني آدم له اعتقاد؛ فيه تصديق بشيء وتكذيب بشيء , وله قصد وإرادة لما يرجوه مما هو عنده محبوب ممكن الوصول إليه , أو لوجود المحبوب عنده , أو لدفع المكروه عنه.
والله خلق العبد يقصد الخير فيرجوه بعمله, فإذا كذَّب بالحق فلم يصدق به, ولم يرج الخير فيقصده ويعمل له كان خاسراً بترك تصديق الحق وطلب الخير, فكيف إذا كذب بالحق وكره إرادة الخير؟
فكيف إذا صدق بالباطل وأراد الشر؟
فذكر عبد الله بن مسعود أن لقلب ابن آدم لمة من الملك ولمة من الشيطان, فلمة الملك تصديق بالحق وهو ما كان من جنس من غير جنس الاعتقاد الفاسد, ولمة الشيطان هو تكذيب بالحق وإيعاد بالشر, وهو ما كان من جنس إرادة الشر وظن وجوده: إما مع رجائه إن كان مع هوى نفس, وإما مع خوفه إن كان غير محبوب لها -وكل من الرجاء والخوف مستلزم للآخر.
فمبدأ العلم الحق والإرادة الصالحة من لمة الملك, ومبدأ الاعتقاد الباطل والإرادة الفاسدة من لمة الشيطان ' [86]
وعن هذه أو تلك تصدر الأعمال -خيرها وشرها- التي لا يخلو منها بشر قط.
ومن جليل الاستنباط أن شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية وتلميذه شَيْخ الإِسْلامِ ابن القيم استخرجا هذه الحقيقة من سورة الفاتحة , وكررا ذلك في كثير من تآليفهما النافعة فكشفا بذلك عن طرف من سر الحكمة الربانية في قراءة هذه السورة في كل ركعة , فكل مسلم لا بد أن يتلوها سبع عشرة مرة في اليوم على الأقل .
يقول ابن القيم رحمه الله: 'لما كان في القلب قوتان: قوة العلم والتمييز, وقوة الإرادة والحب, كان كماله وصلاحه باستعمال هاتين القوتين فيما ينفعه ويعود عليه بصلاحه وسعادته، فكماله باستعمال قوة العلم في إدراك الحق ومعرفته والتمييز بينه وبين الباطل, وباستعمال قوة الإرادة والمحبة في طلب الحق ومحبته وإيثاره على الباطل, فمن لم يعرف الحق فهو ضال, ومن عرفه وآثر غيره عليه فهو مغضوب عليه، ومن عرفه واتبعه فهو منعم عليه.
وقد أمرنا الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أن نسأله في صلاتنا أن يهدينا صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، ولهذا كان النصارى أخص بالضلال لأنهم أمة جهل, واليهود أخص بالغضب لأنهم أمة عناد, وهذه الأمة هم المنعم عليهم, ولهذا قال سفيان بن عيينة : من فسد من عبّادنا ففيه شبه من النصارى, ومن فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود ' [87] .
ثم ذكر بعض الشواهد النقلية وقال: وهذا المعنى في القرآن في مواضع كثيرة؛ يخبر سبحانه أن أهل السعادة هم الذين عرفوا الحق واتبعوه, وأن أهل الشقاوة هم الذين جهلوا الحق وضلوا عنه أو علموه وخالفوه واتبعوا غيره، ويختم الموضوع قائلا: 'وينبغي أن تعرف أن هاتين القوتين لا تتعطلان في القلب, بل إن استعمل قوته العلمية في معرفة الحق وإدراكه وإلا استعملها في معرفة ما يليق به ويناسبه من الباطل.
وإن استعمل قوته الإرادية العملية في العمل به وإلا استعملها في ضده , فالإنسان حارث همام بالطبع كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أصدق الأسماء حارث وهمام حقيقة النفس الانسانية Tips }.
فالحارث: الكاسب العامل, والهمام: المريد, فإن النفس متحركة بالإرادة, وحركتها الإرادية لها من لوازم ذاتها, والإرادة تستلزم مراداً يكون متصوراً لها متميزاً عندها, فإن لم تتصور الحق وتطلبه وتريده تصورت الباطل وطلبته وأرادته ولا بد....' [88] .
فإذا تبين لنا هذا الجانب عن النفس الإنسانية وأنها في حركة لاهثة مستمرة ما بقيت حية , فمن الضروري معرفة شيء من تفصيل حركتها وعلاقة ذلك بالمظهر الخارجي للحركة "العمل", وبمصدر الطاقة المستمر "الملك أو الشيطان", وبالدافع والغرض للحركة "تحصيل النافع الملائم ودفع الضار المنافر".
وكل هذا جاء مفصلاً في كلام شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله مستنبطاً من نصوص الوحي .
ونظل مع ابن القيم في تقرير هذه الحقيقة -ولا نقول النظرية- ثم نعود لشيخه الذي عرضها مراراً من خلال التقرير الأهم, وهو تقرير شمول العبودية وضرورتها لكل حي, والربط بين هاتين الحقيقتين الكبريين:
1- حقيقة الحركة الدائمة للنفس الإنسانية.
2- حقيقة شمول العبودية لكل خاطرة وهم وعزم وهمس وفعل من تلك الحركة.
يقول ابن القيم : 'مبدأ كل علم نظري، وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار؛ فإنها توجب التصورات, والتصورات تدعو إلى الإرادات، والإرادات تقتضي وقوع الفعل، وكثرة تكراره تعطي العادة.
واعلم أن الخطرات والوساوس تؤدي متعلقاتها إلى الفكر، فيأخذها الفكر فيؤديها إلى التذكر، فيأخذها التذكر فيؤديها إلى الإرادة؛ فتأخذها الإرادة فتؤديها إلى الجوارح والعمل، فتستحكم فتصير عادة، فردها من مبادئها أسهل من قطعها بعد قوتها وتمامها.
ومعلوم أنه لم يعط الإنسان إماتة الخواطر ولا القوة على قطعها فإنها تهجم عليه هجوم النفس، إلا أن قوة الإيمان والعقل تعينه على قبول أحسنها ورضاه به ومساكنته له، وعلى رفع أقبحها وكراهته له ونفرته منه , كما قال الصحابة: { يا رسول الله! إن أحدنا يجد في نفسه ما لأن يحترق حتى يصير حممة [89] أحب إليه من أن يتكلم به؟ فقال: أو قد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان حقيقة النفس الانسانية Tips } '.
وفي لفظ: { الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة حقيقة النفس الانسانية Tips } [90] .
وقد خلق الله النفس شبيهة بالرحى الدائرة التي لا تسكن ولا بد لها من شيء تطحنه، فإن وضع فيها حب طحنته, وإن وضع فيها تراب أو حصى طحنته؛ فالأفكار والخواطر التي تجول في النفس هي بمنزلة الحب الذي يوضع في الرحى, ولا تبقى تلك الرحى معطلة قط بل لابد لها من شيء يوضع فيها، فمن الناس من تطحن رحاه حبا يخرج دقيقاً ينفع به نفسه وغيره. وأكثرهم يطحن رملاً وحصىً وتبناً ونحو ذلك، فإذا جاء وقت العجن والخبز تبين له حقيقة طحينه.
واعتماداً على ما تقرر يصف ابن القيم ما ينبغي للمؤمن إزاء هذا فيقول: 'فإذا دفعت الخاطر الوارد عليك اندفع عنك ما بعده، وإن قبلته صار فكراً جوالاً...'
' ومن المعلوم أن إصلاح الخواطر أسهل من إصلاح الأفكار , وإصلاح الأفكار أسهل من إصلاح الإرادات , وإصلاح الإرادات أسهل من تدارك فساد العمل، وتداركه أسهل من قطع العوائد.
فأنفع الدواء أن تشغل نفسك بالفكر فيما يعنيك دون ما لا يعنيك، فالفكر فيما لا يعني باب كل شر.
ومن فكَّر فيما لا يعنيه فاته ما يعنيه , واشتغل عن أنفع الأشياء له بما لا منفعة له فيه.
فالفكر والخواطر والإرادة والهمة أحق شيء بإصلاحه من نفسك، فإن هذه خاصتك وحقيقتك التي تبتعد بها أو تقرب من إلهك ومعبودك الذي لا سعادة لك إلا في قربه ورضاه عنك، وكل الشقاء في بعدك عنه وسخطه عليك.
ومن كان في خواطره ومجالات فكره دنيئاً خسيساً لم يكن في سائر أمره إلا كذلك.
وإياك أن تمكن الشيطان من بيت أفكارك وإرادتك، فإنه يفسدها عليك فساداً يصعب تداركه, ويلقي إليك أنواع الوساوس والأفكار المضرة, ويحول بينك وبين الفكر فيما ينفعك، وأنت الذي أعنته على نفسك بتمكينه من قلبك وخواطرك فملكها عليك، فمثالك معه مثال صاحب رحى يطحن فيها جيد الحبوب, فأتاه شخص معه حمل تراب وبعر وفحم وغثاء ليطحنه في طاحونته، فإن طرده ولم يمكنه من إلقاء ما معه في الطاحون استمر على طحن ما ينفعه , وإن مكنه في إلقاء ذلك في الطاحون أفسد ما فيها من الحب وخرج الطحين كله فاسداً.
والذي يلقيه الشيطان في النفس لا يخرج عن الفكر فيما كان ودخل في الوجود لو كان على خلاف ذلك.
وفيما لم يكن لو كان كيف كان يكون.
أو فيما يهلك الفكر فيه من أنواع الفواحش والحرام.
أو في خيالات وهمية لا حقيقة لها.
وإما في باطل أو فيما لا سبيل إلى إدراكه من أنواع ما طوي عنه علمه؛ فيلقيه في تلك الخواطر التي لا يبلغ منها غاية, ولا يفق منها على نهاية فيجعل ذلك مجال فكره ومسرح وهمه.
وجماع إصلاح ذلك أن تشغل فكرك في باب العلوم والتصورات بمعرفة ما يلزمك من التوحيد وحقوقه، وفي الموت وما بعده إلى دخول الجنة والنار، وفي آفات الأعمال وطرق التحرز منها , وفي باب الإرادات والعزوم أن تشغل نفسك بإرادة ما ينفعك إرادته، وطرح ما يضرك إرادته ' [91] .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
حنان
مشرف
مشرف
حنان


انثى
عدد الرسائل : 202
احترامك لقوانين المنتدى : حقيقة النفس الانسانية 31010
دعاء : حقيقة النفس الانسانية 15781610
الاوسمة : 3
تاريخ التسجيل : 15/05/2008

حقيقة النفس الانسانية Empty
مُساهمةموضوع: رد: حقيقة النفس الانسانية   حقيقة النفس الانسانية I_icon_minitimeالثلاثاء 14 أكتوبر - 21:43

وتبياناً لأهمية الإرادة والفكر وكونها مبدأ عمل القلب وعمل الجوارح، ننتقل إلى موضع آخر من كلامه توسع فيه في بيان حقيقة مهمة يمكن أن توجز في أن: كل إنسان مفكر وكل مفكر عامل، بياناً لتضاد الأفكار وتعاقبها بما يخرج الإنسان عن أن يكون تمثالاً تُحفر فيه الكلمة فتبقى ما بقي.
ثم يعود السياق فينتظم بقية كلامه هنا , يقول: ' أصل الخير والشر من قبل التفكير، فإن الفكر مبدأ الإرادة والطلب في الرغبة [92] والترك والحب والبغض.
وأنفع الفكر: الفكر في مصالح المعاد وفي طرق اجتلابها، وفي دفع مفاسد المعاد وفي طرق اجتنابها.
فهذه أربعة أفكار هي أجلُّ الأفكار، ويليها أربعة:
فكر في مصالح الدنيا وطرق تحصيلها , وفكر في مفاسد الدنيا وطرق الاحتراز منها.
فعلى هذه الأقسام الثمانية دارت أفكار العقلاء.
ورأس القسم الأول: الفكر في آلاء الله ونعمه وأمره ونهيه، وطرق العلم به وبأسمائه وصفاته من كتابه وسنة نبيه وما والاهما.
وهذا الفكر يثمر لصاحبه المحبة والمعرفة , فإذا فكَّر في الآخرة وشرفها ودوامها وفي الدنيا وخستها وفنائها، أثمر له ذلك الرغبة في الجد والاجتهاد وبذل الوسع في اغتنام الوقت.
وهذه الأفكار تعلي همته وتحييها بعد موتها وسفولها وتجعله في واد والناس في واد.
و بإزاء هذه الأفكار: الأفكار الرديئة التي تجول في قلوب أكثر هذا الخلق؛ كالفكر فيما لا يكلف الفكر فيه ولا أعطي الإحاطة به من فضول العلم الذي لا ينفع, كالفكر في كيفية ذات الرب وصفاته مما لا سبيل للعقول إلى إدراكه.
ومنها: الفكر في الصناعات [93] الدقيقة التي لا تنفع بل تضر؛ كالفكر في الشطرنج والموسيقى وأنواع الأشكال والتصاوير. [94]
ومنها: الفكر في العلوم التي لو كانت صحيحة لم يعط الفكر فيها النفس كمالاً ولا شرفاً , كالفكر في دقائق المنطق , والعلم الرياضي والطبيعي , وآكده علوم الفلاسفة التي لو بلغ الإنسان غايتها لم يكمل بذلك ولم يزك نفسه. [95]
ومنها: الفكر في الشهوات واللذات وطرق تحصيلها , وهذا وإن كان للنفس فيه لذة لا عاقبة له , ومضرته في عاقبة الدنيا قبل الآخرة أضعاف مسرته.
ومنها: الفكر فيما لم يكن لو كان كيف كان , كالفكر فيما إذا صار ملكاً أو وجد كنزاً أو ملك ضيعة ماذا يصنع وكيف يتصرف، ويأخذ ويعطي وينتقم ونحو ذلك من أفكار السفّّل .
ومنها: الفكر في جزئيات أحوال الناس ومداخلهم ومخارجهم , وتوابع ذلك من فكر النفوس المبطلة الفارغة من الله ورسوله والدار الآخرة.
ومنها: الفكر في دقائق الحيل والمكر التي يتوسط بها إلى أغراضه وهواه مباحة كانت أو محرمة.
ومنها: الفكر في أنواع الشعر وصروفه وأفانينه في المدح والهجاء والغزل والمراثي ونحوها، [96] فإنه يشغل الإنسان عن الفكر فيما فيه سعادته وحياته الدائمة.
ومنها: الفكر في المقدرات الذهنية التي لا وجود لها في الخارج ولا بالناس حاجة إليها ألبتة، وذلك موجود في كل علم حتى في علم الفقه والأصول والطب. [97]
فكل هذه الأفكار مضرتها أرجح من منفعتها , ويكفي في مضرتها شغلها عن الفكر فيما هو أدنى به وأعود عليه بالنفع عاجلاً أو آجلاً ' [98] .
وبعد هذه اللفتات التزكوية القيمة نعود لاستكمال الحديث عن تلك الحقيقة الكبرى:
'وبالجملة فالقلب لا يخلو قط من الفكر، إما في واجب آخرته ومصالحها، وإما في مصالح دنياه ومعاشه، وإما في الوساوس والأماني الباطلة والمقدرات المفروضة، وقد تقدم أن النفس مثلها
حقيقة النفس الانسانية Gototop
حقيقة النفس الانسانية Fasil
حقيقة النفس الانسانية Parbotton الإرادات والغايات
الإرادات والغايات [111]
فأما اختلاف الإرادات والغايات:
فإن مراد المؤمن الأعلى ومحبوبه بالقصد الأول هو الله تعالى، وأما الكافر فمراده وغايته ومحبوبه بالقصد الأول هو ما يتخذه من ند معبود وهوىً مألوه.
فهذا يريد الله والدار الآخرة همًّا وحرثاً، وذاك يريد حظ النفس ومتاع العاجلة.
وهذا كاف في تفسير التناقض الواضح بين واقع كل منهما في هذه الأرض أمماً وأفراداً، حتى مع اشتراكهما في بعض مظاهر السعي الصورية.
يقول الله تعالى: حقيقة النفس الانسانية SQoosوَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ حقيقة النفس الانسانية EQoos[البقرة:165].
ويقول جل ذكره: حقيقة النفس الانسانية SQoosوَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً حقيقة النفس الانسانية EQoos[الكهف:28].
ويقول على لسان إمام الموحدين إبراهيم عليه السلام في إنكاره لقومه: حقيقة النفس الانسانية SQoosأَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ حقيقة النفس الانسانية EQoos[الصافات:86].
ويقول: حقيقة النفس الانسانية SQoosفَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ حقيقة النفس الانسانية EQoos[النجم:29-30].
ويقول: حقيقة النفس الانسانية SQoosمَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً حقيقة النفس الانسانية EQoos[الإسراء:18-19].
والآيات في ذلك كثيرة معروفة.
كما أن من أعظم أخطاء الأمم الشركية أنها جعلت الوسائط والأسباب المخلوقة غايات ومرادات معبودة -وهذا الذي كثر الحديث عنه في القرآن- سواء اعتقدوا أن هذا السبب يوصل إلى الله تعالى تقرباً وتألها أو يوصل إلى شيء من الرزق والفضل الذي هو بيد الله وحده. [112]
ولهذا قالوا: حقيقة النفس الانسانية SQoosمَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى حقيقة النفس الانسانية EQoos[الزمر:3].
وقالوا: حقيقة النفس الانسانية SQoosهَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ حقيقة النفس الانسانية EQoos[يونس:18].
وأبطل الله عز وجل -في مواضع كثيرة من كتابه- الشرك كله، سواء أكان في الغاية أو الواسطة، فحقيقة الشرك -على اختلاف صوره ومظاهره- هي الوقوف بالإرادات عند غاية دون الله عز وجل، أو الانقطاع إلى أسباب من خلق الله عز وجل وصنعه.
وبيّن أن ذلك من المشركين تخبط في الوهم وتعلق بالسراب.
حقيقة النفس الانسانية SQoosمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ حقيقة النفس الانسانية EQoos[يوسف:40].
حقيقة النفس الانسانية SQoosإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ حقيقة النفس الانسانية EQoos[العنكبوت:42].
حقيقة النفس الانسانية SQoosوَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ حقيقة النفس الانسانية EQoos[يونس:66].
وهذه قضية من أوضح قضايا التصور السلفي وأجلاها، وأصلها أن الناس لو عقلوا عن الله -عز وجل- كلامه وقاموا لله مثنى وفرادى، ثم تفكروا، لوجدوا أنه ما من شيء يتوهمونه مراداً وغاية لذاته، أو سبباً في حصول المرادات وتحقق الغايات، إلا هو مستلزم لسبب آخر وراءه، وما تزال الغايات والأسباب تتسلسل حتى تنتهي إلى الغاية التي ليس وراءها مطلب، والمصدر الذي ليس وراءه سبب وهو الله تعالى.
وهذا من كنوز التوحيد ودقائقه التي كان يقين السلف الصالح بها يفوق المزاعم النظرية المثالية عند المتصوفة [113] ويبطل التصورات الوهمية الساذجة التي ابتدعها المرجئة ، ولهذا ملكوا نواصي الأمم واستذلوا مناكب الأرض جهاداً في سبيل الله.
يقول ابن القيم رحمه الله:
'قول الله تعالى: حقيقة النفس الانسانية SQoosوَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ حقيقة النفس الانسانية EQoos[الحجر:21] متضمن لكنز من الكنوز، وهو أن كل شيء لا يطلب إلا ممن عنده خزائنه ومفاتيح تلك الخزائن بيده، وأن طلبه من غيره طلب ممن ليس عنده ولا يقدر عليه.
وقوله: حقيقة النفس الانسانية SQoosوَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى حقيقة النفس الانسانية EQoos[النجم:42] متضمن لكنز عظيم وهو أن كل مراد إن لم يرد لأجله ويتصل به وإلا فهو مضمحل منقطع، فإنه ليس إليه المنتهى، وليس المنتهى إلا إلى الذي انتهت إليه الأمور كلها، فانتهت إلى خلقه ومشيئته وحكمته وعلمه، فهو غاية كل مطلوب، وكل محبوب لا يحب لأجله فمحبته عناء وعذاب، وكل عمل لا يراد لأجله فهو ضائع وباطل، وكل قلب لا يصل إليه فهو شقي محجوب عن سعادته وفلاحه، فاجتمع ما يراد منه كله في قوله: حقيقة النفس الانسانية SQoosوَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى حقيقة النفس الانسانية EQoos فليس وراء الله سبحانه غاية تطلب وليس دونه غاية إليها المنتهى.
وتحت هذا سر عظيم من أسرار التوحيد، وهو أن القلب لا يستقر ولا يطمئن ولا يسكن إلا بالوصول إليه، وكل ما سواه مما يحب ويراد فمراد لغيره، وليس المراد المحبوب لذاته إلا واحد إليه المنتهى، ويستحيل أن يكون المنتهى إلى اثنين، كما يستحيل أن يكون ابتداء المخلوقات من اثنين، فمن كان انتهاء محبته ورغبته وإراداته وطاعته إلى غيره بطل عليه ذلك، وزال عنه وفارقه أحوج ما كان إليه، ومن كان انتهاء محبته ورغبته ورهبته وطلبه هو سبحانه، ظفر بنعيمه ولذته وبهجته وسعادته أبد الآباد'[114] .
'ولا يزال العبد منقطعاً عن الله حتى تتصل إراداته ومحبته بوجهه الأعلى، والمراد بهذا الاتصال أن تفضي المحبة إليه وتتعلق به وحده، فلا يحجبها شيء دونه، وأن تتصل المعرفة بأسمائه وصفاته وأفعاله، فلا يطمس نورها ظلمة التعطيل، كما لا يطمس نور المحبة ظلمة الشرك، وأن يتصل ذكره به سبحانه، فيزول بين الذاكر والمذكور حجاب الغفلة، والتفاته في حال الذكر إلى غير مذكوره، فحينئذٍ يتصل الذكر به ويتصل العمل بأوامره ونواهيه، فيفعل الطاعة لأنه أمر بها وأحبها، ويترك المناهي لكونه نهى عنها وأبغضها.
فهذا معنى اتصال العمل بأمره ونهيه، وحقيقته: زوال العلل الباعثة على الفعل والترك من الأغراض والحظوظ العاجلة.
و يتصل التوكل والحب بحيث يصير واثقاً به -سبحانه- مطمئناً إليه راضياً بحسن تدبيره له غير متهم له في حال من الأحوال، ويتصل فقره وفاقته به سبحانه دون من سواه.
ويتصل خوفه ورجاؤه وفرحه وسروره وابتهاجه به وحده، فلا يخاف غيره ولا يرجوه، ولا يفرح به كل الفرح، ولا يسر به غاية السرور، وإن ناله بالمخلوق بعض الفرح والسرور، فليس الفرح التام والسرور الكامل والابتهاج والنعيم وقرة العين وسكون القلب إلا به سبحانه، وما سواه إن أعان على هذا المطلوب فرح به وسر به، وإن حجب عنه فهو بالحزن به والوحشة منه واضطراب القلب بحصوله أحق منه بأن يفرح به، فلا فرحة ولا سرور إلا به أو بما أوصل إليه وأعان على مرضاته.
وقد أخبر سبحانه أنه لا يحب الفرحين بالدنيا وزينتها، وأمر بالفرح بفضله ورحمته، وهو الإسلام والإيمان والقرآن كما فسره الصحابة والتابعون.
والمقصود أن من اتصلت له هذه الأمور بالله سبحانه فقد وصل، وإلا فهو مقطوع عن ربه متصل بحظه ونفسه وملبّس عليه في معرفته وإراداته وسلوكه' [115]
إن الكافر العصري -الأوروبي خاصة- بظلمه وجهله ونسيانه يغفل عن أعظم غاية يفتقر إليها قلبه، وهي الإيمان بالله عز وجل، وينسى أن جوعة الإيمان لا يسد رمقها أي نوع من ملاذِّ الدنيا ومتاعها الزائل وغاياتها الدنيئة، وهو إذ يحس ذلك من نفسه، ويرى أنها غير مستسلمة لله ولا منقادة لأمره، لا يرضى أن ينسب للعبودية، بل ينكر أن يكون يعبد شيئاً بإطلاق.
وهو بهذا يفتقد الصراحة التي كان كفار الماضي يتمسكون بها مع أنفسهم، فقد كانوا مقرين بالعبودية لمعبوداتهم، حتى إنهم ليسمون أنفسهم: عبد اللات، وعبد العزى، وعبد يغوث، ونحوها مما هو كثير في أسمائهم، وهو ما تزال تعترف به عوام الأمم الوثنية المعاصرة في آسيا وإفريقيا وغيرها، فمع اشتراك الفريقين في الضلال والعذاب الشديد بالعبودية لغير الله يزيد الكافر العصري عناداً وجحوداً بمكابرته في إنكار ما هو عليه من الرق لغير الله.
ولعل مرجع ذلك إلى أن الإنسان المعاصر قد صدق المزاعم الهدامة التي بثها دعاة الضلالة من الخارجين عن الكنيسة النصرانية الوثنية أمثال جوليان هكسلي وسارتر ونحوهما، تلك المزاعم التي تدعي أن الإنسان اختلق فكرة الألوهية لما كان محتاجاً إليها، أما الآن فقد أصبح هو نفسه الإله, تعالى الله عما يفترون علواً كبيراً.
وبغض النظر عن الغرض الهدام وراء هذه الأفكار، فإن مؤدى التبرير العقلي لها هو: أن الإنسان الحديث بما حصل عليه من المعرفة -التي لا تتجاوز نسبة ضئيلة من أسرار خلق الله- قد أصبح شيئاً آخر وخلقاً جديداً غير الإنسان القديم الذي كان من خصائصه الحاجة إلى الإيمان.
وكأنما يريدون أن يقولوا: إن الطبيعة البشرية أو الفطرة الإنسانية لم تعد على الحال الذي كانت عليه في الماضي، بل تحولت إلى شيء آخر، وهذا من أعظم أنواع المكابرات، وهذه المزاعم أثر من آثار لوثة [التطور السائب] الذي آمن به الفكر الأوروبي أثناء ثورته الجامحة على طغيان الكنيسة وجمودها.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
حنان
مشرف
مشرف
حنان


انثى
عدد الرسائل : 202
احترامك لقوانين المنتدى : حقيقة النفس الانسانية 31010
دعاء : حقيقة النفس الانسانية 15781610
الاوسمة : 3
تاريخ التسجيل : 15/05/2008

حقيقة النفس الانسانية Empty
مُساهمةموضوع: رد: حقيقة النفس الانسانية   حقيقة النفس الانسانية I_icon_minitimeالثلاثاء 14 أكتوبر - 22:05

والتصور السلفي يرد على هذه الفكرة منذ القدم مبيناً أن الافتقار ذاتي في كل إنسان ما ظل يطلق عليه اسم [إنسان] وما ظل حياً حساساً حارثاً هماماً، وأن الاستكبار عن عبادة الله كالإقرار بالعبودية لغير الله سواء بسواء.
و هذه حقيقة قائمة لا يضيرها من تملص منها أو كابر فيها، فما مثله إلا كمثل رجل كليلٍ كسيحٍ تظهر عليه كل آثار المرض والفقر والعجز، ومع ذلك يصر بلسانه على أنه أغنى الناس وأصحهم وأقدرهم، ومن أراد الوصول إلى الحقيقة فليضم ما كتبه أدباء أوروبا ومفكروها عن شقاء الإنسان الحديث وضياعه وتمزقه وذعره, إلى قول شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية :
' القلب فقير بالذات إلى الله من وجهين: من جهة العبادة وهي العلة الغائية، ومن جهة الاستعانة والتوكل وهي العلة الفاعلة ' [116] .
ولو حصل له كل ما يلتذُّ به من المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن، إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه، من حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذِّة والنعمة والسكون والطمأنينة.
و هذا لا يحصل له إلا بإعانة الله له، فإنه لا يقدر على تحصيل ذلك له إلا الله، فهو دائماً مفتقر إلى حقيقة: حقيقة النفس الانسانية SQoos إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ حقيقة النفس الانسانية EQoos
فإنه لو أعين على حصول كل ما يحبه ويطلبه ويشتهيه ويريده، ولم يحصل له عبادة الله، فلن يحصل إلا على الألم والحسرة والعذاب، ولن يخلص من آلام الدنيا ونكد عيشها إلا بإخلاص الحب لله، بحيث يكون الله هو غاية مراده ونهاية مقصوده وهو المحبوب له بالقصد الأول، وكل ما سواه إنما يحبه لأجله لا يحب شيئاً لذاته إلا الله.
ومتى لم يحصل له هذا، لم يكن قد حقق حقيقة [لا إله إلا الله] ولا حقق التوحيد والعبودية والمحبة لله، وكان فيه من نقص التوحيد والإيمان بل من الألم والحسرة والعذاب بحسب ذلك.
ولو سعى في هذا المطلوب، ولم يكن مستعيناً بالله متوكلاً عليه مفتقراً إليه في حصوله لم يحصل له، فإنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فهو مفتقر إلى الله من حيث هو المطلوب والمحبوب والمراد المعبود, ومن حيث هو المسئول المستعان به المتوكل عليه.
فهو إلهه الذي لا إله له غيره وهو ربه الذي لا رب له سواه.
ولا تتم عبوديته لله إلا بهذين، فمتى كان يحب غير الله لذاته أو يلتفت إلى غير الله أنه يعينه، كان عبداً لما أحبه وعبداً لما رجاه بحسب حبه له ورجائه إياه، وإذا لم يحب أحداً لذاته إلا الله، وأي شيء أحبه سواه فإنما أحبه سواه له، ولم يرج قط شيئاً إلا الله، وإذا فعل ما فعل من الأسباب أو حصل ما حصل منها كان مشاهداً أن الله هو الذي خلقها وقدَّرها وسخرها له، وأن كل ما في السماوات والأرض فالله ربه ومليكه وخالقه ومسخره وهو مفتقر إليه, كان قد حصل له من تمام عبوديته لله بحسب ما قسم له من ذلك.
فأكمل الخلق وأفضلهم وأعلاهم وأقربهم إلى الله وأقواهم وأهداهم أتمهم عبوديةً لله من هذا الوجه، وهذا هو حقيقة دين الإسلام الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه، وهو أن يستسلم لله لا لغيره، فالمستسلم له ولغيره مشرك، والممتنع عن الاسستلام له مستكبر .
'وكل من استكبر عن عبادة الله لا بد أن يعبد غيره فإن الإنسان حساس يتحرك بالإرادة' [117]
ثم قال بعد هذا الكلام المنقول سابقاً: ' بل الاستقراء يدل على أنه كلما كان الرجل أعظم استكباراً عن عبادة الله كان أعظم إشراكاً بالله، لأنه كلما استكبر عن عبادة الله ازداد فقراً وحاجةً إلى المراد المحبوب الذي هو المقصود: مقصود القلب بالقصد الأول، فيكون مشركاً بما استعبده من ذلك.
ولن يستغني القلب عن جميع المخلوقات إلا بأن يكون الله هو مولاه الذي لا يعبد إلا إياه، ولا يستعين إلا به، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يفرح إلا بما يحبه ويرضاه ولا يكره إلا ما يبغضه الرب ويكرهه، ولا يوالي إلا من والاه الله، ولا يعادي إلا من عاداه الله، ولا يحب إلا لله، ولا يبغض شيئاً إلا لله، ولا يعطي إلا لله، ولا يمنع إلا لله، فكلما قوي إخلاص دينه لله كملت عبوديته واستغناؤه عن المخلوقات، وبكمال عبوديته لله تكمل تبرئته من الكبر والشرك ' [118] .
وبعد أن تحدث عن الإسلام الاختياري تحدث عن الإسلام الإجباري، حيث تكون حقيقة الافتقار التي لا مراء فيها لأحد: ' وقال تعالى: حقيقة النفس الانسانية SQoosأَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً حقيقة النفس الانسانية EQoos[آل عمران:83]
فذكر إسلام الكائنات طوعاً وكرهاً، لأن المخلوقات جميعها متعبدة له التعبد العام، سواء أقر بذلك أو أنكره، وهم مدينون له مدبَّرون، فهم مسلمون له طوعاً وكرهاً، ليس لأحد من المخلوقات خروج عما شاءه وقدره وقضاه، ولا حول ولا قوة إلا به، وهو رب العالمين ومليكهم يصرفهم كيف يشاء، وهو خالقهم كلهم وبارئهم ومصورهم، وكل ما سواه فهو مربوب مصنوع مفطور فقير محتاج مقهور، وهو سبحانه الواحد القهار الخالق البارئ المصور.
وهو وإن كان قد خلق ما خلقه بأسباب فهو خالق السبب والمقدر له، وهو مفتقر إليه كافتقار هذا، وليس في المخلوقات سبب مستقل بفعل خير ولا دفع ضر، بل كل ما هو سبب فهو محتاج إلى سبب آخر يعاونه وإلى ما يدفع عنه الضد الذي يعارضه ويمانعه.
وهو سبحانه وحده الغني عن كل ما سواه، ليس له شريك يعاونه ولا ضد يناوئه ويعارضه ' [119] .
إن كثيراً من المسلمين -ولله الحمد- يدركون حقيقة إسلام الكون القهري لله تعالى، فلا يتطرق إليهم الشك في أن الكفار في أوروبا وأمريكا مربوبون لله تعالى من حيث هو خالقهم ورازقهم ومدبر أمورهم.
ولكنهم -مع ذلك- لا يدركون الجانب الآخر من الحقيقة، وهو أن هؤلاء الكفار عبيد أرقاء مغرقون في العبودية والرق لغير الله.
ولا غرابة في خفاء ذلك على أكثر المسلمين، لأنهم -هم- واقعون في شرك الإرادة وهم لا يشعرون.
حتى البلاد التي عافاها الله فتخلصت من شرك التقرب والتنسك لغير الله غزاها الشيطان بشرك الإرادة الخفي، وفتنها ما فتح الله عليها من كنوز الأرض، فانكب أهلها على الدنيا انكباب الغافلين، وعبدوا الدراهم والدينار -بل التراب والعقار- وتحولت العقيدة الصحيحة إلى نظرية ذهنية موروثة، وحتى شكلها النظري لم يبق منه لدى العامة إلا معانٍ شاحبةٍ [120] إلا من سلَّم الله وحفظ.
هذا والواجب والأصل أن تكون هذه الحقيقة النفسية واضحة وضوح تلك الحقيقة الكونية.
ورحم الله الشيخ محمد بن عبد الوهاب فقد عقد باباً خاصاً في كتابه المبارك كتاب التوحيد بعنوان:
' باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا. أورد فيه قوله تعالى: حقيقة النفس الانسانية SQoosمَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ حقيقة النفس الانسانية EQoos[هود:15]
والحديث الصحيح: {تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط... حقيقة النفس الانسانية Tips } الحديث'
ومراده أوسع وأعمق مما ذكره حفيده العلامة سليمان بن عبد الله في قوله: 'إن المراد بهذا الباب أن يعمل الإنسان عملاً صالحاً يريد به الدنيا، كالذي يجاهد للقطيفة والخميلة ونحو ذلك ' [121]
فهذا وإن كان داخلاً في المراد، لكن تقييده به تضييق لمغزى واسع أحسب أن الشيخ المؤلف أراد إيضاحه، وهو أن أكثر الناس -المسلمين وغيرهم- جعلوا همهم وحرثهم وكدحهم وكبدهم للدنيا وحدها، فلا تتحرك قلوبهم ولا تنفعل إلا لها وبها، حتى أنهم لو دعوا الله وعبدوه، فإنما يريدون بذلك زيادة الخير والبركة في الصحة والرزق، وهذا باب أوسع من باب فساد النية مع عمل صالح يفعله العبد المؤمن، فهذا الباب -الأخير- يصيب الصالحين ويعرض للمخلصين.
كما أن ظاهر الحديث لا يؤيد كلامه -رحمه الله- فالمقصود من الحديث هو عبودية القلب وإرادته غير الله، وليس مجرد فساد النية مع عمل صالح، ألا ترى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربط بين العبودية للدنيا وعمل القلب بقوله: {إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط حقيقة النفس الانسانية Tips } وهو مطابق لمنطوق ما ذكر الله عن المنافقين في قوله: حقيقة النفس الانسانية SQoosوَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ حقيقة النفس الانسانية EQoos[التوبة:58] وهي ضمن سياق كله في النفاق الأكبر.
فعبودية القلب للدنيا التي لحظها شَيْخ الإِسْلامِ -المؤلف- هي ذلك الداء العضال الذي ابتليت به الأمة الإسلامية، فنزع الله مهابتها من قلوب أعدائها، وقذف في قلوبها الوهن حب الدنيا وكراهية الموت، فأصبح حرثها وهمها للدنيا وحدها .
وهذه بلوى أوسع وأخطر من الجهاد من أجل القطيفة والخميلة الذي قد لا يزيد عن كونه ذنباً عارضاً يتاب منه، وليس المرض العارض كالعاهة المزمنة، والرجل قد يعمل أو يجاهد لأجل القطيفة والخميلة حتى إذا ملكها كانت في يده ولم تكن في قلبه، بخلاف الذي استعبد حبها قلبه وملك عليه لبه، فهذا الحقيق بأن يسميه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبداً لها، وينطبق عليه قوله تعالى: حقيقة النفس الانسانية SQoosفَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى حقيقة النفس الانسانية EQoos[النجم:29-30]
وإرادة القلب للدنيا إفساد لعمل القلب من اليقين والتوكل والرضا ونحوها, بخلاف صرف شيء من العمل للدنيا، ففيه إفساد لعمل الجارحة من جهاد وصدقة يريد بها نماء ماله ونحوها, ومع تلازمهما [122] فالأول أعظم من الأخير .
ومما يوضح ذلك أن الرياء إنما كان شركاً أصغر لطروء الفساد على عمل القلب، بخلاف سائر المعاصي التي يكون الفساد فيها مقتصراً على عمل الجوارح، فلم يطلق عليها الشارع لفظ الشرك مثله.
وإرادة غير الله بالهم والحرث بحيث تنصرف أعمال القلوب لمراد غيره يستهلكها أو أكثرها أمكن في باب الشرك من مجرد الرياء بطاعة من الطاعات أو طلب الدنيا بها، لكن ها هنا مجال التفاوت، فمن صرف إرادته لغير الله بالكلية كان عبداً خالصاً لغير الله، ومن جرد إرادته لله وحده بلغ الذروة من الإيمان، وبين ذلك درجات كثيرة وحالات مختلفة.
والحالة التي نريد علاجها هنا هي عبودية القلب لغير الله دون أن يشعر، لأن غفلة الناس عنها وراء وقوعهم في الوهم الأكبر: 'وهو أنهم محققون للإيمان مع كونهم غير عابدين لغير لله '.
و الحال أنهم بضد ذلك حتى لو سلموا من الشرك الجليّ، وما أقل السالمين منه!
يقول شَيْخ الإِسْلامِ : ' كمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله، وكلما ازداد العبد تحقيقاً للعبودية ازداد كماله وعلت درجته، ومن توهم أن المخلوق يخرج من العبودية بوجه من الوجوه أو أن الخروج عنها أكمل، فهو من أجهل الخلق بل من أضلهم'
ثم ذكر النصوص في ذلك، وقال: ' إذا تبين ذلك فمعلوم أن الناس يتفاضلون في هذا الباب تفاضلاً عظيماً وهو تفاضلهم في حقيقة الإيمان، وهم ينقسمون فيه إلى عام وخاص، ولهذا كانت إلهية الرب لهم فيها عموم وخصوص.
و لهذا كان الشرك في هذا الأمة أخفى من دبيب النمل.
وفي الصحيح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: {تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش، إن أعطي رضي وإن منع سخط حقيقة النفس الانسانية Tips }.
فسماه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عبد الدرهم وعبد الدينار وعبد القطيفة وعبد الخميصة وذكر ما فيه دعاء وخبراً، وهو قوله: { تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش حقيقة النفس الانسانية Tips }.
والنقش: إخراج الشوكة من الرجل، والمنقاش: ما يخرج به الشوكة، وهذه حال من إذا أصابه شر لم يخرج منه ولا خلص من المكروه، وهذا حال من عبد المال.
وقد وصف ذلك بأنه إذا أعطي رضي، وإذا منع سخط كما قال تعالى:
حقيقة النفس الانسانية SQoosوَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ حقيقة النفس الانسانية EQoos[التوبة:58].
فرضاهم لغير الله، وسخطهم لغير الله .
وهكذا حال من كان متعلقاً برئاسة أو بصورة ونحو ذلك من أهواء نفسه، إن حصل له رضي، وإن لم يحصل له سخط، فهذا عبد ما يهواه من ذلك وهو رقيق له، إذ الرق والعبودية في الحقيقة: هو رق القلب وعبوديته، فما استرق القلب واستعبده فالقلب عبده
و هذا أمر يجده الإنسان من نفسه، فإن الأمر الذي ييئس منه لا يطلبه ولا يطمع فيه ولا يبقى قلبه فقيراً إليه ولا إلى من يفعله، وأما إذا طمع في أمر من الأمور ورجاه، فإن قلبه يتعلق به، فيصير فقيراً إلى حصوله، وإلى من يظن أنه سبب في حصوله، وهذا في الحال والجاه والصور وغير ذلك.
قال الخليل: حقيقة النفس الانسانية SQoos فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ حقيقة النفس الانسانية EQoos[العنكبوت:17]
فالعبد لا بد له من رزق وهو يحتاج إلى ذلك، فإذا طلب رزقه من الله صار عبداً لله فقيراً إليه، وإذا طلبه من مخلوق صار عبداً لذلك المخلوق فقيراً إليه. ولهذا كانت مسألة المخلوق محرمة في الأصل، وإنما أبيحت للضرورة، وفي النهي عنها أحاديث كثيرة في الصحاح والسنن والمسانيد ' .
وبعد أن نقل طائفة من الأحاديث في ذلك قال: ' والإنسان لا بد له من حصول ما يحتاج إليه من الرزق ونحوه ودفع ما يضره، وكلا الأمرين شرع له أن يكون دعاؤه لله، فلا يسأل رزقه إلا من الله ولا يشتكي إلا إليه- كما قال يعقوب عليه السلام: حقيقة النفس الانسانية SQoosإِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ... حقيقة النفس الانسانية EQoos[يوسف:86]
وكلما قوي طمع العبد في فضل الله ورحمته لقضاء حاجته ودفع ضرورته قويت عبوديته له وحريته مما سواه، فكما أن طمعه في المخلوق يوجب عبوديته له، فيأسه منه يوجب غنى قلبه عنه، كما قيل: استغن عمن شئت تكن نظيره، وأفضل على من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره.
فكذلك طمع العبد في ربه ورجاؤه له يوجب عبوديته له، وإعراض قلبه عن الطلب من الله والرجاء له يوجب انصراف قلبه عن العبودية لله، لا سيما من كان يرجو المخلوق ولا يرجو الخالق، بحيث يكون قلبه معتمداً إما على رئاسته وجنوده وأتباعه ومماليكه، وإما على أهله وأصدقائه، وإما على أمواله وذخائره، وإما على ساداته وكبرائه، كمالكه وملكه وشيخه ومخدومه وغيرهم ممن هو قد مات أو يموت، قال تعالى: حقيقة النفس الانسانية SQoosوَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً حقيقة النفس الانسانية EQoos[الفرقان:58].
وكل من علق قلبه بالمخلوقين أن ينصروه أو يرزقوه أو أن يهدوه خضع لهم، وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك، وإن كان في الظاهر أميراً لهم مديراً لأمورهم متصرفاً بهم.
فالرجل إذا تعلق قلبه بامرأة -ولو كانت مباحة له- يبقى أسير
حقيقة النفس الانسانية Gototop
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
حنان
مشرف
مشرف
حنان


انثى
عدد الرسائل : 202
احترامك لقوانين المنتدى : حقيقة النفس الانسانية 31010
دعاء : حقيقة النفس الانسانية 15781610
الاوسمة : 3
تاريخ التسجيل : 15/05/2008

حقيقة النفس الانسانية Empty
مُساهمةموضوع: رد: حقيقة النفس الانسانية   حقيقة النفس الانسانية I_icon_minitimeالثلاثاء 14 أكتوبر - 22:07

حقيقة النفس الانسانية Gototop
حقيقة النفس الانسانية Fasil
حقيقة النفس الانسانية Parbotton الأدلة على صحة هذا المنهج في الواقع
إن صحة الإرادة -حسب المنهج السلفي- هي النقطة التي لا يمكن تجاوزها في السير على طريق الإيمان، بل هي مما يجب استصحابه حتى موافاة اليقين، وبهذا يتم جمع شتات أعمال القلوب والجوارح لتتجه كلها نحو الغاية التي ليس وراءها غاية.
وإن من أعظم الأدلة على صحة المنهج السلفي وحده أنك تراه كالنسيج المحكم والحلقة المتماسكة، فكل عنصر من عناصره وقضية من قضاياه تؤدي إلى هذه الحقائق البدهية الواضحة وترتبط بها بأقوى الروابط.
فإن تحدثوا عن جانب العقيدة والمعرفة فمحور حديثهم هو ما سبق، وإن تحدثوا عن التزكية والمراقبة آل بهم الحديث إلى هذا الموضوع نفسه.. ولنتخذ على هذا مثالين:
المثال الأول: في التزكية والمراقبة من جهة اندراج كل عمل الجوارح والحياة بامتدادها الطولي والعرضي في نطاق العبودية الشامل:
وذلك أن مما يؤمن به من سار على منهج السلف الصالح ' أنه لله على العبد في كل عضو من أعضائه أمر، وله عليه نهي، وله فيه نعمة، وله به منفعة ولذة، فإن قام لله في ذلك العضو بأمره واجتنب فيه نهيه فقد أدّى شكر نعمته عليه فيه وسعى في تكميل انتفاعه ولذته به، وإن عطّل أمر الله ونهيه فيه عطله الله من الانتفاع بذلك العضو، وجعله من أكبر أسباب ألمه ومضرته ' .
هذه واحدة.
والأخرى ' أن لله عليه في كل وقت من أوقاته عبودية تقدمه إليه وتقربه منه، فإن شغل وقته بعبودية الوقت تقدم إلى ربه، وإن شغله بهوى أو راحة أو بطالة تأخر.
فالعبد لا يزال في تقدم أو تأخر ولا وقوف في الطريق ألبتة، قال تعالى: حقيقة النفس الانسانية SQoosلِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ حقيقة النفس الانسانية EQoos[المدثر:37] '[133] .
' فإذا عرف العبد أن الحياة ما هي إلا أنفاس تتلاحق ودقائق تتسابق، وأنه لو أحصى حظه منها لوجده ينقص كثيراً عن عمر بعض الطيور والزواحف والأشجار، فضلاً عن أعمار الكواكب والنجوم، فضلاً عن عمر الكون كله فضلاً عن مدى عالمي الغيب والشهادة مجتمعين...
وعلم مع هذا أنه مخلوق لحكمة واضحة وغاية محددة هي عبادة ربه سبحانه وحده لا شريك له، فلا بد أن يحرص أشد الحرص على حفظ الوقت وإشغاله بالعبودية، وإعمال البدن في الطاعة، وإلا اعتراه النقص في إيمانه بقدر ما يعتريه من نقص في ذلك.
وهذا ليس نقصاً فحسب، بل هو تأخر وانقطاع، لأنه إن لم يكن في تقدم فهو في تأخر ولا بد، فالعبد سائر لا واقف، فإما إلى فوق وإما إلى أسفل، وإما إلى أمام وإما إلى وراء، وليس في الطبيعة ولا في الشريعة وقوف ألبتة، ما هو إلا مراحل تطوى أسرع طي إلى الجنة أو إلى النار، فمسرع ومبطئ ومتقدم ومتأخر وليس في الطريق واقف البتة، وإنما يتخالفون في جهة المسير وفي السرعة والبطء: حقيقة النفس الانسانية SQoosإِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ * نَذِيراً لِلْبَشَرِ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ حقيقة النفس الانسانية EQoos[المدثر:35-37] ولم يذكر واقفاً، إذ لا منزل بين الجنة والنار ولا طريق لسالك إلى غير الدارين ألبتة، فمن لم يتقدم إلى هذه بالأعمال الصالحة فهو متأخر إلى تلك بالأعمال السيئة ' [134] .
وقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما رواه الإمام أحمد بسند صحيح: {ما جلس قوم مجلساً فلم يذكروا الله فيه إلا كان عليهم ترة [135] ، وما من رجل مشى طريقاً فلم يذكر الله عز وجل إلا كان عليه ترة، وما من رجل آوى إلى فراشه فلم يذكر الله إلا كان عليه ترة حقيقة النفس الانسانية Tips }.
وهؤلاء أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحققون المثل الأعلى في حفظ الوقت بل في إحيائه [136] وتزكيته -تصحيحاً للإرادة وتوحيداً للهمة- فكان كله طاعة وكله رفعاً للدرجة، دع عنك ما أمضوه من أعمارهم في الدعوة والجهاد والذكر والصيام والتلاوة، ولكن انظر إلى الجانب الآخر الذي أهمل المتأخرون شأنه تبعاً لانحسار مفهوم العبادة عن بعض أعمال القلوب والجوارح -أعني الجانب الذي يدخل في حظ النفس الجبلي- فهذا معاذ رضي الله عنه يقول: [[أما أنا فأنام وأقوم، فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي حقيقة النفس الانسانية Tips ]] .
وهذا أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: [[يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم، كيف يغبنون به قيام الحمقى وصومهم حقيقة النفس الانسانية Tips ]]
قال ابن القيم رحمه الله تعليقاً على هذا: 'وهذا من جواهر الكلام وأدله على كمال فقه الصحابة وتقدمهم على من بعدهم في كل خير رضي الله عنهم
فاعلم أن العبد إنما يقطع منازل السير إلى الله بقلبه وهمته لا ببدنه، والتقوى في الحقيقة تقوى القلوب لا تقوى الجوارح، [137] قال تعالى: حقيقة النفس الانسانية SQoosذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ حقيقة النفس الانسانية EQoos[الحج:32]
وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {التقوى هاهنا وأشار إلى صدره حقيقة النفس الانسانية Tips }.
فالكيّس يقطع من المسافة بصحة العزيمة وعلو الهمة وتجريد القصد وصحة النية مع العمل القليل، أضعاف ما يقطعه الفارغ من ذلك مع التعب الكثير والسفر الشاق، فإن العزيمة والمحبة تذهب المشقة وتطيب السير، والتقدم والسبق إلى الله سبحانه إنما هو بالهمم وصدق الرغبة والعزيمة، فيتقدم صاحب الهمة مع سكونه صاحب العمل الكثير بمراحل، فإن ساواه في همته تقدم عليه بعمله... ' أهـ.
وهذا مما يفسر لنا كيف أن الصحابة رضي الله عنهم أعظم الناس إيماناً ويقيناً مع أن فيمن جاء بعدهم من هو أكثر عبادةً وسهراً ومرابطةً من كثير منهم، بل ربما كان في الصحابة من هو أكثر قياماً وصياماً من الصديق الذي لو وزن إيمانه بإيمان أهل الأرض لرجح بهم. [138]
وحسب الصحابة من علو الهمة أن الأنصار لما بايعوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة العقبة فاشترط واشترطوا، قالوا: {فما لنا يا رسول الله! قال: الجنة، قالوا: ذلك لك حقيقة النفس الانسانية Tips ) [139] .
فانظر إلى هذه الهمة العالية والقوم في أول الطريق، وقارنها بهمة الأحلاس الجفاة من زعماء القبائل الأخرى الذين اشترطوا أن يكون لهم الأمر من بعده.
المثال الثاني: في المعرفة والإرادة من جهة صفاء التوحيد وشفافيته المستوجب تنبه العبد وحذره الدائم، وما أكثر من هلك في أودية الغفلة والاغترار:
' فإن التوحيد ألطف شيء وأنزهه وأنظفه وأصفاه، فأدنى شيء يخدشه ويدنسه ويؤثر فيه، فهو كأبيض ثوب يكون فيه أدنى أثر، وكالمرآة الصافية جداً أدنى شيء يؤثر فيها، ولهذا تشوشه اللحظة واللفظة والشهوة الخفية، فإن بادر صاحبه وقلع ذلك الأثر بضده وإلا استحكم وصار طبعاً يتعسر عليه قلعه.
وهذه الآثار والطبوع التي تحصل فيه، منها ما يكون سريع الحصول سريع الزوال، ومنها ما يكون سريع الحصول بطيء الزوال، ومنها ما يكون بطيء الحصول سريع الزوال، ومنها ما يكون بطيء الحصول بطيء الزوال.
ولكن من الناس من يكون توحيده كبيراً عظيماً ينغمر فيه كثير من تلك الآثار ويستحيل فيه، بمنزلة الماء الكثير الذي يخالطه أدنى نجاسة أو وسخ، فيغتر به صاحب التوحيد الذي هو دونه فيخلط توحيده الضعيف بما خلط به صاحب التوحيد العظيم الكثير توحيده فيظهر تأثيره فيه ما لم يظهر في التوحيد الكثير.
وأيضاً فإن المحل الصافي جداً يظهر لصاحبه ما يدنسه في المحل الذي لم يبلغ في الصفاء مبلغه، فيتداركه بالإزالة دون هذا فإنه لا يشعر به.
وأيضاً فإن قوة الإيمان والتوحيد إذا كانت قوية جداً أحالت المواد الرديئة وقهرتها بخلاف القوة الضعيفة.
وأيضاً فإن صاحب المحاسن الكثيرة والغامرة للسيئات ليسامح بما لا يسامح به من أتى مثل تلك السيئات وليس له تلك الحسنات، كما قيل:

وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع
وأيضاً فإن صدق الطلب وقوة الإرادة وكمال الانقياد يحيل تلك العوارض والغواشي الغريبة إلى مقتضاه وموجبه، كما أن الكذب وفساد القصد وضعف الانقياد يحيل الأقوال والأفعال الممدوحة إلى مقتضاه وموجبه... '[140]
ومن الشواهد الدالة على حقيقة ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم -مع كمال تحقيقهم للتوحيد- كانوا يخشون أن يفسده عليهم أدنى عارض ويحترزون من ذلك غاية الاحتراز، سواء أكانت الشائبة من جهة المعرفة والانقياد أو من جهة الإرادة والقصد .
ورحم الله من قال: 'إن القوم قلت ذنوبهم فعرفوا من أين أتوا' [141] .
ومن ذلك ما حدث للفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم الحديبية ، حيث خفي عليه وجه الحكمة والمصلحة في شروط الصلح، فأظهر امتعاضه من قبولها ورادّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك -على ما هو مفصل في السيرة- فعدّ صنيعه هذا شائبة تشوب صفاء معرفة حق النبوة والانقياد لحكم الله، فما لبث رضي الله عنه أن استدرك واستعظم ما صنع، حتى إنه كان يقول: [[ ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذٍ مخافة كلامي الذي تكلمت به... حقيقة النفس الانسانية Tips ]]
فهذا حاله وهو أكمل الأمة بعد نبيها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصديقها، وهو إنما قال ما قال حمية لدينه وغضباً لله ورسوله واجتهاداً في الاستدلال بالرؤيا النبوية.
وكذلك ما حصل للثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك لما اعتراهم بعض خلل في الهمة والإرادة، ولم يستدركوه كما استدركه أبو خيثمة -حين فارق الظل والزوجة وطوى القفار حتى أدرك القوم- فما أن استيقنوا فوات ركب الجهاد حتى استوحشوا واستعظموا ما صنعوا، ثم كان من أمرهم وعقوبتهم ما هو معروف، فهذا حالهم مع أن اثنين منهم شهدا بدراً -مرارة وهلال - والثالث كعب شهد العقبة ، ولم يقع بـتبوك قتال.
وبمناسبة الحديث عن الصحابة رضي الله عنهم في موضع الاقتداء والتأسي نقول: لعله ليس من الاستطراد [142] التنبيه إلى أن من أركان الانهيار الذي تردت فيه الأمة الإسلامية فساد الإرادة والمقصد المستوجب فساد المعرفة والسلوك.
دع من فسدت معرفته وسلوكه بالابتداع والتلقي عن غير منبع الوحي كسائر فرق الضلال، ولكن انظر إلى الأجيال المتأخرة التي ورثت عن الصحابة وصح تلقيها منه، غير أن هذا الداء قد اعتراها، ففسدت المعرفة نفسها تبعاً لفساد الإرادة والمقصد، فخرجت من التمسك بالسنة إلى البدعة، ومن إرشاد السائرين إلى قطع الطريق عليهم.
وفي عصرنا نماذج حية من هؤلاء، ترى الواحد منهم في الأصل وارثاً لعلم السلف معتقداً لعقيدتهم نظرياً، لكن انصراف همته وإرادته للدنيا أخرجه -في واقع حياته- إلى ضلال في التصورات وانحراف في السلوك، شعر أو لم يشعر, فبينا هو يعجب من حال أهل العقائد البدعية إذا الشيطان ينسج حوله شباك بدع من جنس آخر، فأصبح فتنة لأهل البدع ومنديلاً لذوي السلطان ومرقاة لأصحاب الأهواء والشهوات.
وهذه عقبة كبرى وباب خطر قل من يجتازه وينجو من بلائه، وإنما يبدأ به الشيطان من باب التوسع في المباحات والترفع عن المساكين وإن كانوا من المتقين، ثم يفضي به إلى الانغماس في الشهوات ومجاراة الكبراء في دنياهم، ثم يجوز به من باب التبرير لما هو فيه إلى الإفتاء بصحته ومشروعيته ومعاداة مخالفه، وعندئذ يتكدر عليه صفاء معرفته، وينقلب عليه سلاح علمه، فلا يزال يقول على الله بغير علم، ويكتم ظاهر الحجج، ويتعلل بفنون التأويلات، حتى ينسلخ من نور العلم ويصبح مثله -كمثل الذي ضرب الله في سورة الأعراف- كالكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث.
وعن هذا يقول الإمام الحافظ ابن القيم : 'كل من آثر الدنيا من أهل العلم واستحبها، فلابد أن يقول على الله غير الحق في فتواه وحكمه في خبره وإلزامه، لأن أحكام الرب سبحانه كثيراً ما تأتي على خلاف أغراض الناس -و لا سيما أهل الرياسة والذين يتبعون الشبهات، فإنهم لا تتم لهم أغراضهم إلا بمخالفة الحق ودفعه كثيراً .
فإذا كان العالم والحاكم محبيّن للرياسة متبعين للشهوات لم يتم لهما ذلك إلا بدفع ما يضاده من الحق، ولا سيما إذا قامت له شبهة، فتتفق الشبهة والشهوة ويثور الهوى فيخفى الصواب وينطمس وجه الحق، وإن كان الحق ظاهراً لا خفاء به ولا شبهة فيه أقدم على مخالفته، وقال: لي مخرج بالتوبة.
وفي هؤلاء وأشباههم قال تعالى: حقيقة النفس الانسانية SQoosفَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ حقيقة النفس الانسانية EQoos[مريم:59]
و قال تعالى فيهم أيضا: حقيقة النفس الانسانية SQoosفَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ حقيقة النفس الانسانية EQoos[الأعراف:169]
فأخبر سبحانه أنهم أخذوا العرض الأدنى مع علمهم بتحريمه عليهم، وقالوا: سيغفر لنا، وإن عرض لهم عرض آخر أخذوه، فهم مصرون على ذلك، وذلك هو الحامل لهم على أن يقولوا على الله غير الحق، فيقولون: هذا حكمه وشرعه ودينه، وهم يعلمون أن دينه وشرعه وحكمه خلاف ذلك، أو لا يعلمون أن ذلك دينه وشرعه وحكمه، فتارة يقولون على الله ما لا يعلمون، وتارة يقولون عليه ما يعلمون بطلانه...'
'و هؤلاء لا بد أن يبتدعوا في الدين مع الفجور في العمل، فيجتمع لهم الأمران، فإن اتباع الهوى يعمي عين القلب فلا يميز بين السنة والبدعة، أو ينكسه فيرى البدعة سنة والسنة بدعة.
فهذه آفة العلماء إذا آثروا الدنيا واتبعوا الرياسات والشهوات، وهذه الآيات فيهم إلى قوله:
حقيقة النفس الانسانية SQoosوَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ حقيقة النفس الانسانية EQoos[الأعراف:175-176] ' [143] .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
حنان
مشرف
مشرف
حنان


انثى
عدد الرسائل : 202
احترامك لقوانين المنتدى : حقيقة النفس الانسانية 31010
دعاء : حقيقة النفس الانسانية 15781610
الاوسمة : 3
تاريخ التسجيل : 15/05/2008

حقيقة النفس الانسانية Empty
مُساهمةموضوع: رد: حقيقة النفس الانسانية   حقيقة النفس الانسانية I_icon_minitimeالثلاثاء 14 أكتوبر - 22:09

الأسباب والوسائط
[144]

وأما اختلاف الأسباب والوسائط فمع ما سبق له من إيضاح، نقول: إنه قد تقرر فيما مضى أن العبد -كل عبد- من حيث هو مفتقر ذاتياً إلى الله تعالى لا يستطيع أن يحقق مراداته ومطالبه التي لا تنتهي إلا بوسائط وأسباب إما حقيقية وإما متوهمة..

والقصد هنا بيان اختلاف شطري الجماعة الإنسانية: (المؤمنون والكافرون) بالنسبة لهذا الأمر، وكيف يصرف كل منهما عبادته وخوفه ورجاءه وسائر أعمال قلبه له وفي سبيله. [145]

فأما المؤمن فمن بدهيات إيمانه تجريد الاستعانة بالله وحده -كتجريد العبادة له وحده- سواء الاستعانة به في الهداية والاستقامة وصلاح القلب، أو في إدراك المطالب وقضاء الحوائج التي يفتقر إليها المخلوق في معاشه ومصالحه .

فهو يعلم أن الله تعالى هو وحده الذي بيده خزائن كل شيء: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ [الحجر:21] -كما سبق عنها- وهو يناجي ربه تعالى في حين وآخر: {اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد }

وهو يردد هذا الكنز من كنوز الجنة { لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم }

بل إن كل عاقل في الوجود لو تأمل وتدبر لوجد أنه ' ليس في الوجود الممكن سبب واحد مستقل بالتأثير، بل لا يؤثر سبب ألبتة إلا بانضمام سبب آخر إليه وانتفاء مانع يمنع تأثيره، هذا في الأسباب المشهودة بالعيان وفي الأسباب الغائبة والأسباب المعنوية، فكل ما يخاف ويرجى من المخلوقات، فأعلى غاياته أن يكون جزء سبب غير مستقل بالتأثير، ولا يستقل بالتأثير وحده دون توقف تأثيره على غيره إلا الله الواحد القهار.

فلا ينبغي أن يرجى ولا يخاف غيره، وهذا برهان قطعي على أن تعلق الرجاء والخوف بغيره باطل، فإنه لو فرض أن ذلك سبب مستقل وحده بالتأثير لكانت سببيته من غيره لا منه، فليس له من نفسه قوة يفعل بها، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله، فهو الذي بيده الحول كله والقوة كلها، فالحول والقوة التي يرجى لأجلها المخلوق ويخاف إنما هما لله وبيده في الحقيقة، فكيف يخاف ويرى من لا حول له ولا قوة؟!

بل خوف المخلوق ورجاؤه أحد أسباب الحرمان ونزول المكروه بمن يرجوه ويخافه، فإنه على قدر خوفك من غير الله يسلط عليك، وعلى قدر رجائك لغيره يكون الحرمان، وهذا حال الخلق أجمعه، وإن ذهب عن أكثرهم علماً وحالاً، فما شاء الله كان ولا بد، وما لم يشأ لم يكن ولو اتفقت عليه الخليقة ' [146]

والمتأمل لكتاب الله تعالى ولحال الخليقة يجد أن من أكبر أسباب الشرك ودواعيه توهم المشركين أن غير الله مصدر خير لهم، وأن عبادته سبب لحصول ما ينفعهم ودفع ما يضرهم، وأقل من ذلك من يتخذ من دون الله إلهاً، بمعنى أن يجعله قرة عينه وغاية قلبه ومتعلق إرادته.

أي أن شرك الدعاء أكثر من شرك المحبة، وذلك لأن حقيقة الافتقار في الأول أظهر وأعم، ولهذا جاء الخطاب به في القرآن أكثر، وأبطل الله عز وجل أن يكون لغيره نفع أو ضر أو ولاية أو شفاعة أو ملك أو شرك في ملك، أو يكون بيد غيره رحمة أو رزق أو فضل أو شفاء أو موت أو حياة أو نصر أو إغاثة أو كشف كرب... إلى آخر ما يفتقر إليه كل مخلوق وتصرف فيه أعمال القلوب, إلا من جعله الله تعالى سبباً لحصول شيء من ذلك.

وهذه من أكبر الحقائق التي فصَّلها القرآن المكي، وسد الله بها كل منافذ الشرك وذرائعه ودواعيه.

قال تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ:22-23].

وقال: قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً [فاطر:40].

ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:13-14].

وقال على لسان خليله إبراهيم: إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [العنكبوت:17]



الإقرار بالافتقار من حال إلى حال
وأما الإقرار بالافتقار فمن أجلى الأدلة على التوحيد وحقيقة الإيمان، والخلاف فيه بين الكافر والمؤمن من أعظم ما يميز كلاً منهما عن الآخر، ثم هو مما يميز الذاكرين الصابرين عن الغافلين الهلعين من المؤمنين.

فالمؤمن مقر بافتقاره إلى الله في كل لحظة عين، ومن كان شاكراً لأنعمه ذاكراً لآلائه في حال الرخاء والشدة معاً، يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها، ولا يمل دعاءه ولو لأدنى حاجاته.

وبالجملة هو مشاهد لحقيقة افتقاره إلى مولاه يدعوه صباحاً ومساءً بما أوصى به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابنته فاطمة رضي الله عنها: {يا حي يا قيوم برحمتك استغيث, أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين } [147] .

بل إن المؤمن ليستشعر ذلك في أعز ساعات الانتصار والتمكين.

وقد قصّ الله تعالى من حال أنبيائه في القرآن ما فيه بيان وقدوة؛ فهذا يوسف عليه السلام ' في اللحظة التي تم له فيها كل شيء تحققت رؤياه: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [يوسف:100].

في هذه اللحظة نزع يوسف عليه السلام نفسه من اللقاء والعناق والفرحة والابتهاج ليتجه إلى ربه في تسبيح الشاكر الذاكر، كل دعوته وهو في أبهة السلطان وفي فرحة تحقيق الأحلام: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف:101]

وكذلك نبي الله سليمان عليه السلام وقد رأى عرش ملكة سبأ حاضراً بين يديه (من وراء آلاف الأميال) من قبل أن يرتد إليه طرفه: فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ [النمل:40] '[148]

وهكذا فعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين دخل مكة فاتحاً منصوراً؛ فإنه دخلها وهو يقرأ سورة الفتح يُرجِّع [149] ، ونزل بيت أم هانئ فصلّى فيه ثماني ركعات، [150] .

وظل مكثراً من التسبيح والاستغفار إلى أن توفاه الله تأويلاً لقوله تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً [النصر:1-3]

ولهذا قال أشياخ بدر لـعمر رضي الله عنه: [[ أمرنا أن نحمد ربنا ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا ]][151] وهكذا فعل سعد بن أبي وقاص يوم فتح المدائن ، وجعلها بعض العلماء سنة فقالوا: يستحب لأمير الجيش إذا فتح بلداً أن يصلي فيه أول ما يدخله ثماني ركعات. [152]

فهذا حال المؤمنين في حال النعمة وذروة الطمأنينة.

وأما الكافر فإنه مستكبر على ربه متمرد عليه حال الرخاء والنعمة، يكفره ولا يشكره، يستخدم آلاءه في معاصيه، يطغى إذا استغنى، ويفسق إذا أترف، حتى إذا ما نزلت به نازلة، وأحدقت به كربة، وأحاطت به مصيبة، سقط من عرش كبريائه الوهمي، وانهار الزيف أمام الواقع، وانكشف الغيم عن الفطرة المكبوتة، فأيقن حينئذٍ أنه لا يملك حولاً ولا طولاً، وضلت عنه الأرباب المزعومة التي كان يتعلق بها من قبل، وأخلص لله الدعاء، وأظهر له من الافتقار والضراعة ما لم يكن ليخطر له ببال حال الأمن والعافية.

وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْأِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ [فصلت:51].

وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [يونس:12].

فَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:49].

ومن أشد المواقف التي يظهر فيها ذلك جلياً موقف الرعب الحاصل لراكب البحر حين يكون الهلاك قاب قوسين أو أدنى.

هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [يونس:22-23]

قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ [الأنعام:63-64].

أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ [لقمان:31-32].

وهذا من أعظم ما ألزم به القرآن المشركين، فإنه أقبح ما يكون الإنكار بعد الإقرار، وأقبح ما يكون الاستكبار بعد التذلل والتضرع.

وبيّن سبحانه أن كل نعمة هي منه؛ فالافتقار إليه ذاتي، وغناه تعالى مطلق: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15].

وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ [النحل:53-54]

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3].

أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ [الملك:21].

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ [الملك:30].

وحتى هذه الحالة بخصوصها -حالة ركوب البحر- بيّن الله لهم ضلال نظرتهم القاصرة حين يجعلون حاجتهم إليه محصورة في زمن اشتداد العاصفة، وكأنما خلوصهم إلى البر استغناء عنه ومأمنة من عقابه.

وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً * أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً * أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً [الإسراء:67-69].

ومن أعجب ما قصه الله -تعالى- في ذلك ما وقع لفرعون وملئه؛ فقد سلط الله تعالى عليهم صنوفاً من العذاب: (الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم) وكلما اشتد عليهم وطأة عذاب وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائيلَ [الأعراف:134] ولكن ما يكاد العذاب ينكشف حتى يعودوا للكفر والجحود، فتأتي الآية الآخرى من العذاب وهكذا، حتى تم لهم تسع آيات انتهت بإغراقهم أبداً!!
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
حنان
مشرف
مشرف
حنان


انثى
عدد الرسائل : 202
احترامك لقوانين المنتدى : حقيقة النفس الانسانية 31010
دعاء : حقيقة النفس الانسانية 15781610
الاوسمة : 3
تاريخ التسجيل : 15/05/2008

حقيقة النفس الانسانية Empty
مُساهمةموضوع: رد: حقيقة النفس الانسانية   حقيقة النفس الانسانية I_icon_minitimeالثلاثاء 14 أكتوبر - 22:12

الخــاتمة
تقرر مما سبق عن حقيقة النفس الإنسانية أن كل إنسان همام -أي مريد ومفكر- وأن كل همام حارث -أي: عامل كادح- وأن كل عامل له غاية ومراد ينتهي إليها همه وإرادته، ويقصدها بكدحه وعمله، فهو عامل لها: أي عابد ولا بد!

وتقرر قبله ومعه أن الإسلام هو دين الفطرة القويمة، أنزله الله متسقاً مع حقيقة الإنسان، مستوعباً كل نشاطه وحركته -هماً وحرثاً وفكراً وعملاً- ومن ثَم جاء منهجاً متكاملاً لإصلاح النشاط الإنساني كله؛ إصلاح الخواطر والأفكار بالاعتقادات الحقة، والإرادات الصحيحة، والنية الخالصة، وإصلاح الأعمال بأنواع الطاعات والبر والمعروف.

وتكفل ببيان ضد ذلك من الاعتقادات الباطلة والإرادات الفاسدة والأعمال السيئة والتحذير منها.

وكما أن الإنسان لا يمكن أن يكون هماماً ولا يكون حارثاً؛ فإن الإيمان لا يمكن أن يكون اعتقاداً ولا يكون عملاً.

ومن هنا نستطيع أن نتبين أي المذهبين في الإيمان هو الحق؛ مذهب أهل السنة والجماعة أم مذهب المرجئة .

ومعيار الحكم في هذا يبدأ من أصل الخلاف, وهو اختلاف مصدري التلقي والاستمداد عند الفريقين؛ فمن يستقي من مصدر الوحي المعصوم، فضروري أن يكون مذهبه هو الحق المتفق مع حقيقة الإنسان؛ تبعاً لما تقرر من اتفاق دين الله ووحيه مع خلقه وفطرته، ومن استقى من مصدر آخر -أياًّ كان- فلا بد أن يقع في التناقض، وأن يصادم حقيقة الإنسان تبعاً لمخالفته لصريح القرآن!

وبنظرة عامة لما سبق نستطيع أن نستخرج بسهولة هذه النتيجة: أن أهل السنة والجماعة في اعتقادهم الجازم أن الإيمان عمل، والعمل إيمان- على ما سيأتي إيضاحه- إنما يستقون من معين الوحي المعصوم- كتاباً وسنةً- ما هو منسجم قطعا مع حقيقة النفس الإنسانية.

أما ما تعتقده المرجئة من التفريق بين الإيمان والعمل، وإثبات الإيمان كاملاً في القلب مع وقوع عمل الجوارح على خلافه [153] فهو فصل اعتباطي للحقيقة النفسية الواحدة، يجعل أحد شقيها ذاهباً ذات اليمين والآخر ذاهباً ذات الشمال في وقت واحد، وهو ما لا يقع أبداً، بل هذا الفصل يشبه من الناحية العضوية فصل القلب عن الجسد وفصل الطاقة عن الحركة.

حقيقة الأمر أن المرجئة تعتبر الإيمان قضية ذهنية مجردة -تسميها تصديقاً أو معرفة- تعلق هذه القضية بالقلب كمادة جامدة ومعزولة لا تزيد ولا تنقص، توجد كاملة أو تذهب كاملة، ولا تستلزم أي أثر في الوجدان والشعور أو الحركة والكدح، بل هي مثـل أية معلومة رياضية أو مقولة فلسفية!!

وهي حين تعتقد ذلك يغيب عنها حقيقة بالغة الأهمية، وهي كيف إذن يفسر العمل الإنساني الدائب الذي لا يتوقف إلا لحظة الموت؟ ما مصدره؟ ما طاقته؟ ما دوافعه إن لم يكن الإيمان أياً كان هذا الإيمان؟!

حقاً لقد جهدت كثيراً لكي أعثر على وجهة نظر القوم في هذه القضية الكبرى بلسان مقالهم لا بلسان حالهم، وتساءلت أيستطيع هؤلاء أن يلتزموا القول بأن المؤمن -على زعمهم- مصاب بانفصام الشخصية؛ فهو يعتقد غير ما يعمل، ويعمل غير ما يعتقد؟! [154]

وكيف يجيبون على كثير من الأسئلة البدهية التي يفجؤهم بها مناظرهم قبل الدخول في تفصيلات النقاش العلمي والخوض الجدلي مثل:

كيف يمتلئ القلب بالحب، وتعمل الجوارح أعمالاً كلها عداء وانتقام؟!

وكيف يمتلئ القلب بالرحمة، وتعمل الجوارح أعمالاً كلها غلظة وفظاظة؟!

وكيف يمتلئ القلب بالتصديق، وتعمل الجوارح أعمالاً كلها تكذيب وإعراض؟!

وكيف يمتلئ القلب بالتقوى وتعمل الجوارح أعمالاً كلها فجور وآثام؟ [155]

ولما لم أجد لهذا ذكراً عندهم خرجت بنتيجة وضعتها أول الأمر على أنها افتراض، ثم صدقها البحث التاريخي المستقصي؛ وهي: أن عقيدة المرجئة لم تكن على الإطلاق ثمرة نظر في النصوص الشرعية ولا وليدة اجتهاد عقلي سَوي، وإنما هي وليدة مواقف انفعالية جدلية أفرزتها المعارك الكلامية الطاحنة بين الفرق البدعية, تلك الفرق التي كان جهلها بالشرع وإعراضها عنه سبباً في تعلقها لدفع خصومها بأوهام ذاتية أو تصورات غريبة منقولة عن مصادر وثنية [156] ولهذا جاءت أصولها الاعتقادية- لا سيما المرجئة - مجافية تماماً للدين والفطرة والعقل والحقيقة الإنسانية.

ولست أدري أيَّ الخيالين كان أسبق إلى عقول المرجئة وهي تؤسس هذه النظرية الهلامية: أهو تخيل أن الإنسان تمثال شاخص لا علم له ولا إرادة ولا إحساس, أم تخيل أن الإيمان قطعة جامدة هامدة لا تنتج إحساساً ولا إرادةً ولا عملاً؟

فعلى الخيال الأول يريدون إرغام العقول السوية على أن تتصور قلباً بشرياً مزروعاً في جسد تمثال!

وعلى الخيال الآخر يريدون إرغامها على أن تتصور إنساناً حياً يعيش بقلب من الخشب أو الفخار الصامت!

والمهم أنه على كلا الحالين لا نجد خارج أذهان المرجئة إنساناً- أي لا نجد إيماناً- هذه صفته.

أما الإنسان ذاك الذي خلقه الله تعالى بطبيعته حارثاً همّاماً حياً حساساً مريداً عاملاً، فإنه لا يمكن -في الحالة السوية- أن يؤمن بشيء ولا يعمله، أو يعمل شيئاً وهو لا يؤمن به.

فالصلة بين الإيمان -أياً كان- وبين العمل كالصلة بين العمل والحياة.

ولا مخرج للمرجئة من هذه الإلزامات جميعها إلا أن تقر بأن ما تتحدث عنه مسمية إياه إيماناً ليس هو الإيمان الشرعي، ولتسميه بعد ذلك ما شاءت!!





ومما له علاقة بهذا الموضوع (حقيقة النفس الإنسانية ) الموادّ التالـيـة:
من الكتب (25)
المقدمة
الباب الأول حقيقة الإيمان وارتباط العمل به
حقيقية الإيمان الشرعية
الباب الثاني نشأة الإرجاء
الفتنة الأولى
الفتنة الثانية
الخلاصة والنتيجة
الباب الثالث الإرجاء الظاهرة
توطئة
البدايات والأصول
أصول مذاهب المرجئة نظرياً
الأثر الكلامي في تطور الظاهرة
الأثر المنطقي
النتيجة: حكم ترك العمل في الطور النهائي للظاهرة
الباب الرابع علاقة الإيمان بالعمل والظاهر بالباطن
العلاقة بين إيمان القلب وإيمان الجوارح
علاقة قول اللسان بقول القلب وعمله
أثر عمل الجوارج في أعمال القلب
الباب الخامس الإيمان حقيقة مركبة وترك جنس العمل كفر
توطـئة
الإيمان حقيقة مركبة
الشبهات النقلية والاجتهادية
الإرجاء بين أهل السنة وعلاقته بالمنهج
المسلك الملائم لحل مسألة الإرجاء
الإرجاء والغلو خطران عظيمان على الإسلام
من المحاضرات عامة (18)
مفهوم الإيمان عند أهل السنة والجماعة
مسألة زيادة الإيمان ونقصانه
العلاقة بين الأمن والإيمان
الأمن إذا تجرد من التوحيد والإيمان
المنهج الرباني للأمن في الدنيا والآخرة
الفرق بين المرجئة والخوارج وأهل السنة والجماعة في أهل الوعيد
علاقة الظاهر بالباطن ودلالته عليه
الإيمان وأهميته
أثر الإيمان
التعطش إلى الإيمان
تحقيق الإيمان وتعميمه
اجتماع الحسنات والسيئات
الحسنات يذهبن السيئات
شهادة التاريخ بتفوق الإيمان
أهمية الإيمان وأثره في واقع الحياة
الفرق بين الإسلام والإيمان
أركان الإيمان في منهج أهل السنة والجماعة
أهمية الصبر في الإيمان وذكر أنواع الصبر
من شرح العقيدة الطحاوية (16)
زيادة الإيمان ونقصـانه
مذاهب الناس في مرتكب الكبيرة وأدلة كلٍ منهم
النوع الثامن: إخراج عصاة الموحدين من النار
أصول الدين الإسلامي
مقدمة عن الإيمان بالملائكة
الإيمان بالملائكة والرد على الفلاسفة
أصناف الملائكة والأعمال الموكلة بهم
تدبير الملائكة لأمور الكون
الملائكة .. أعمالهم وفضائلهم
من فضائل الملائكة
وجوب الإيمان بالأنبياء جميعاً
وجوب الإيمان بأن الأنبياء بلّغوا رسالة ربهم
الإيمان عند المرجئة والرد عليهم
حديث الشعب أنموذجاً لأعمال الإيمان
حقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة
مسألة الإيمان بين أهل السنة وبين المرجئة والخوارج
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
تهانى
ادارى
ادارى
تهانى


انثى
عدد الرسائل : 723
احترامك لقوانين المنتدى : حقيقة النفس الانسانية 31010
دعاء : حقيقة النفس الانسانية 15781610
الاوسمة : 1
تاريخ التسجيل : 15/05/2008

حقيقة النفس الانسانية Empty
مُساهمةموضوع: رد: حقيقة النفس الانسانية   حقيقة النفس الانسانية I_icon_minitimeالأحد 26 أكتوبر - 3:55

حقيقة النفس الانسانية 271010
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
حقيقة النفس الانسانية
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الجنة فى بيوتنا :: أنــوار اليـقيـــن-
انتقل الى: