وذلك أن حكمة الله تعالى في خلق الإنسان اقتضت أن يكون أمام الإنسان طريقان مختلفان: طريق الكفر وطريق الإيمان, وأن يسير في أيهما شاء ابتلاءً له وامتحاناً:
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29].
وكان مقتضى ذلك أن جعل للنفس البشرية في حركتها الجبلِّية الدائبة مصدرين متنافرين يمدانها بالطاقة والحركة بين حين وآخر- هما:
1- ذكر الله بالمعنى الشامل له, ومنه تدبر القرآن والتفكر في المخلوقات والآلاء والعلم النافع، وكل ما من شأنه أن يزكيها ويوقظها ويصلح خلجاتها وخواطرها، وما يقذفه الملك فيها من تصديق بالحق وإيعاد بالخير.
2- وسوسة الشيطان الذي يعبث بها ويغرها ويلهيها ويزين لها ويمكر بها، ويقذف فيها التكذيب بالحق والإيعاد بالشر.
[84] فللملك لمة وللشيطان لمة. والنفس كالرحى الدائرة؛ إما أن تستمد وقودها وطحينها من هذا أو من هذا ولا تقف عن العمل قط.
وهذه القضية وما يترتب عليها من قضايا تحدث عنها علماء الإسلام الربانيون , متخذينها منطلقا لإيضاح حقائق كبرى في معاملات القلوب مع الله تعالى وأسلوب تزكيتها.
يقول شَيْخ الإِسْلامِ
ابن تيمية رحمه الله إيضاحاً لحديث
ابن مسعود : ' {إن للملك لمة وللشيطان لمة..
} هذا الكلام الذي قاله
ابن مسعود هو محفوظ عنه , وربما رفعه بعضهم إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وهو كلام جامع لأصول ما يكون من العبد من علم وعمل، من شعور وإرادة.
وذلك أن العبد له قوة الشعور والإحساس والإدراك وقوة الإرادة والحركة , وإحداهما أصل الثانية مستلزمة لها , والثانية مستلزمة للأولى ومكملة لها , فهو بالأولى يصدق بالحق ويكذب بالباطل , وبالثانية يحب النافع الملائم له ويبغض الضار المنافي له،
[85] والله سبحانه خلق عباده على الفطرة التي فيها معرفة الحق والتصديق به ومعرفة الباطل والتكذيب به، ومعرفة النافع الملائم والمحبة له، ومعرفة الضار المنافي والبغض له بالفطرة.
فما كان حقاً موجوداً صدقت به الفطرة -يعني: من العلوم- وما كان حقاً نافعاً عرفته الفطرة واطمأنت إليه وذلك هو المعروف, وما كان باطلاً معدوماً كذبت به الفطرة فأبغضته فأنكرته, قال تعالى:
يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ [الأعراف:157].
والإنسان كما سماه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث قال: {أصدق الأسماء حارث وهمام
} فهو دائماً يهمُّ ويعمل, لكنه لا يعمل إلا ما يرجو نفعه أو دفع مضرته, ولكن قد يكون ذلك الرجاء مبنياً على اعتقاد باطل, إما في نفس المقصود فلا يكون نافعاً ولا ضاراً, وإما في الوسيلة فلا تكون طريقاً إليه وهذا جهل، وقد يعلم أن هذا الشيء يضره ويفعله, ويعلم أنه ينفعه ويتركه؛ لأن ذلك العلم عارضه ما في نفسه من طلب لذة أخرى أو دفع ألم آخر جاهلاً ظالماً حيث قدم هذا على ذاك.
و إذا كان الإنسان لا يتحرك إلا راجياً , فالرجاء لا يكون إلا بما يلقى في نفسه من الإيعاد بالخير الذي هو طلب المحبوب أو فوات المكروه، فكل بني آدم له اعتقاد؛ فيه تصديق بشيء وتكذيب بشيء , وله قصد وإرادة لما يرجوه مما هو عنده محبوب ممكن الوصول إليه , أو لوجود المحبوب عنده , أو لدفع المكروه عنه.
والله خلق العبد يقصد الخير فيرجوه بعمله, فإذا كذَّب بالحق فلم يصدق به, ولم يرج الخير فيقصده ويعمل له كان خاسراً بترك تصديق الحق وطلب الخير, فكيف إذا كذب بالحق وكره إرادة الخير؟
فكيف إذا صدق بالباطل وأراد الشر؟
فذكر
عبد الله بن مسعود أن لقلب ابن آدم لمة من الملك ولمة من الشيطان, فلمة الملك تصديق بالحق وهو ما كان من جنس من غير جنس الاعتقاد الفاسد, ولمة الشيطان هو تكذيب بالحق وإيعاد بالشر, وهو ما كان من جنس إرادة الشر وظن وجوده: إما مع رجائه إن كان مع هوى نفس, وإما مع خوفه إن كان غير محبوب لها -وكل من الرجاء والخوف مستلزم للآخر.
فمبدأ العلم الحق والإرادة الصالحة من لمة الملك, ومبدأ الاعتقاد الباطل والإرادة الفاسدة من لمة الشيطان '
[86] وعن هذه أو تلك تصدر الأعمال -خيرها وشرها- التي لا يخلو منها بشر قط.
ومن جليل الاستنباط أن شَيْخ الإِسْلامِ
ابن تيمية وتلميذه شَيْخ الإِسْلامِ
ابن القيم استخرجا هذه الحقيقة من سورة الفاتحة , وكررا ذلك في كثير من تآليفهما النافعة فكشفا بذلك عن طرف من سر الحكمة الربانية في قراءة هذه السورة في كل ركعة , فكل مسلم لا بد أن يتلوها سبع عشرة مرة في اليوم على الأقل .
يقول
ابن القيم رحمه الله: 'لما كان في القلب قوتان: قوة العلم والتمييز, وقوة الإرادة والحب, كان كماله وصلاحه باستعمال هاتين القوتين فيما ينفعه ويعود عليه بصلاحه وسعادته، فكماله باستعمال قوة العلم في إدراك الحق ومعرفته والتمييز بينه وبين الباطل, وباستعمال قوة الإرادة والمحبة في طلب الحق ومحبته وإيثاره على الباطل, فمن لم يعرف الحق فهو ضال, ومن عرفه وآثر غيره عليه فهو مغضوب عليه، ومن عرفه واتبعه فهو منعم عليه.
وقد أمرنا الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أن نسأله في صلاتنا أن يهدينا صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، ولهذا كان النصارى أخص بالضلال لأنهم أمة جهل, واليهود أخص بالغضب لأنهم أمة عناد, وهذه الأمة هم المنعم عليهم, ولهذا قال
سفيان بن عيينة : من فسد من عبّادنا ففيه شبه من النصارى, ومن فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود '
[87] .
ثم ذكر بعض الشواهد النقلية وقال: وهذا المعنى في القرآن في مواضع كثيرة؛ يخبر سبحانه أن أهل السعادة هم الذين عرفوا الحق واتبعوه, وأن أهل الشقاوة هم الذين جهلوا الحق وضلوا عنه أو علموه وخالفوه واتبعوا غيره، ويختم الموضوع قائلا: 'وينبغي أن تعرف أن هاتين القوتين لا تتعطلان في القلب, بل إن استعمل قوته العلمية في معرفة الحق وإدراكه وإلا استعملها في معرفة ما يليق به ويناسبه من الباطل.
وإن استعمل قوته الإرادية العملية في العمل به وإلا استعملها في ضده , فالإنسان حارث همام بالطبع كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أصدق الأسماء حارث وهمام
}.
فالحارث: الكاسب العامل, والهمام: المريد, فإن النفس متحركة بالإرادة, وحركتها الإرادية لها من لوازم ذاتها, والإرادة تستلزم مراداً يكون متصوراً لها متميزاً عندها, فإن لم تتصور الحق وتطلبه وتريده تصورت الباطل وطلبته وأرادته ولا بد....'
[88] .
فإذا تبين لنا هذا الجانب عن النفس الإنسانية وأنها في حركة لاهثة مستمرة ما بقيت حية , فمن الضروري معرفة شيء من تفصيل حركتها وعلاقة ذلك بالمظهر الخارجي للحركة "العمل", وبمصدر الطاقة المستمر "الملك أو الشيطان", وبالدافع والغرض للحركة "تحصيل النافع الملائم ودفع الضار المنافر".
وكل هذا جاء مفصلاً في كلام شيخي الإسلام
ابن تيمية و
ابن القيم رحمهما الله مستنبطاً من نصوص الوحي .
ونظل مع
ابن القيم في تقرير هذه الحقيقة -ولا نقول النظرية- ثم نعود لشيخه الذي عرضها مراراً من خلال التقرير الأهم, وهو تقرير شمول العبودية وضرورتها لكل حي, والربط بين هاتين الحقيقتين الكبريين:
1- حقيقة الحركة الدائمة للنفس الإنسانية.
2- حقيقة شمول العبودية لكل خاطرة وهم وعزم وهمس وفعل من تلك الحركة.
يقول
ابن القيم : 'مبدأ كل علم نظري، وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار؛ فإنها توجب التصورات, والتصورات تدعو إلى الإرادات، والإرادات تقتضي وقوع الفعل، وكثرة تكراره تعطي العادة.
واعلم أن الخطرات والوساوس تؤدي متعلقاتها إلى الفكر، فيأخذها الفكر فيؤديها إلى التذكر، فيأخذها التذكر فيؤديها إلى الإرادة؛ فتأخذها الإرادة فتؤديها إلى الجوارح والعمل، فتستحكم فتصير عادة، فردها من مبادئها أسهل من قطعها بعد قوتها وتمامها.
ومعلوم أنه لم يعط الإنسان إماتة الخواطر ولا القوة على قطعها فإنها تهجم عليه هجوم النفس، إلا أن قوة الإيمان والعقل تعينه على قبول أحسنها ورضاه به ومساكنته له، وعلى رفع أقبحها وكراهته له ونفرته منه , كما قال الصحابة: { يا رسول الله! إن أحدنا يجد في نفسه ما لأن يحترق حتى يصير حممة
[89] أحب إليه من أن يتكلم به؟ فقال: أو قد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان } '.
وفي لفظ: { الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة
}
[90] .
وقد خلق الله النفس شبيهة بالرحى الدائرة التي لا تسكن ولا بد لها من شيء تطحنه، فإن وضع فيها حب طحنته, وإن وضع فيها تراب أو حصى طحنته؛ فالأفكار والخواطر التي تجول في النفس هي بمنزلة الحب الذي يوضع في الرحى, ولا تبقى تلك الرحى معطلة قط بل لابد لها من شيء يوضع فيها، فمن الناس من تطحن رحاه حبا يخرج دقيقاً ينفع به نفسه وغيره. وأكثرهم يطحن رملاً وحصىً وتبناً ونحو ذلك، فإذا جاء وقت العجن والخبز تبين له حقيقة طحينه.
واعتماداً على ما تقرر يصف
ابن القيم ما ينبغي للمؤمن إزاء هذا فيقول: 'فإذا دفعت الخاطر الوارد عليك اندفع عنك ما بعده، وإن قبلته صار فكراً جوالاً...'
' ومن المعلوم أن إصلاح الخواطر أسهل من إصلاح الأفكار , وإصلاح الأفكار أسهل من إصلاح الإرادات , وإصلاح الإرادات أسهل من تدارك فساد العمل، وتداركه أسهل من قطع العوائد.
فأنفع الدواء أن تشغل نفسك بالفكر فيما يعنيك دون ما لا يعنيك، فالفكر فيما لا يعني باب كل شر.
ومن فكَّر فيما لا يعنيه فاته ما يعنيه , واشتغل عن أنفع الأشياء له بما لا منفعة له فيه.
فالفكر والخواطر والإرادة والهمة أحق شيء بإصلاحه من نفسك، فإن هذه خاصتك وحقيقتك التي تبتعد بها أو تقرب من إلهك ومعبودك الذي لا سعادة لك إلا في قربه ورضاه عنك، وكل الشقاء في بعدك عنه وسخطه عليك.
ومن كان في خواطره ومجالات فكره دنيئاً خسيساً لم يكن في سائر أمره إلا كذلك.
وإياك أن تمكن الشيطان من بيت أفكارك وإرادتك، فإنه يفسدها عليك فساداً يصعب تداركه, ويلقي إليك أنواع الوساوس والأفكار المضرة, ويحول بينك وبين الفكر فيما ينفعك، وأنت الذي أعنته على نفسك بتمكينه من قلبك وخواطرك فملكها عليك، فمثالك معه مثال صاحب رحى يطحن فيها جيد الحبوب, فأتاه شخص معه حمل تراب وبعر وفحم وغثاء ليطحنه في طاحونته، فإن طرده ولم يمكنه من إلقاء ما معه في الطاحون استمر على طحن ما ينفعه , وإن مكنه في إلقاء ذلك في الطاحون أفسد ما فيها من الحب وخرج الطحين كله فاسداً.
والذي يلقيه الشيطان في النفس لا يخرج عن الفكر فيما كان ودخل في الوجود لو كان على خلاف ذلك.
وفيما لم يكن لو كان كيف كان يكون.
أو فيما يهلك الفكر فيه من أنواع الفواحش والحرام.
أو في خيالات وهمية لا حقيقة لها.
وإما في باطل أو فيما لا سبيل إلى إدراكه من أنواع ما طوي عنه علمه؛ فيلقيه في تلك الخواطر التي لا يبلغ منها غاية, ولا يفق منها على نهاية فيجعل ذلك مجال فكره ومسرح وهمه.
وجماع إصلاح ذلك أن تشغل فكرك في باب العلوم والتصورات بمعرفة ما يلزمك من التوحيد وحقوقه، وفي الموت وما بعده إلى دخول الجنة والنار، وفي آفات الأعمال وطرق التحرز منها , وفي باب الإرادات والعزوم أن تشغل نفسك بإرادة ما ينفعك إرادته، وطرح ما يضرك إرادته '
[91] .