|
الكاتب والمفكر الإسلامي د.عبدالعزيز كامل |
مع بدايات العقد الماضي أخذت الحركة الإسلامية في العالمين العربي والإسلامي تنحو منحى "سلفيًّا"، وتصطبغ توجهاتها بصبغة سلفية، وربما تلون أكثر خطابها بمرادفات سلفية أيضا، رغم أن بدايات تلك الحركة تاريخيا لم تكن كذلك، بل كانت تصب في روافدها مناهل أخرى عديدة، بعضها أزهري وبعضها صوفي أو نهضوي بشكل عام. ومع هذا المد السلفي الذي شرع في التوسع، على حساب غيره من باقي مكونات العمل الإسلامي، حتى إلى خارج حدوده العربية والإسلامية، بات الكثير من مفكري وباحثي الأمة -فضلا عن مراكز الأبحاث، ودوائر السياسة الغربية- منشغلين بـ"السلفية" ومنهجها ومنطلقاتها ووسائلها في الدعوة، ورغبة في التعرف عن قرب على خلفيات هذا التوجه ومشاربه الفكرية، كان لنا هذا اللقاء مع الدكتور عبد العزيز مصطفى كامل الكاتب والمفكر الإسلامي المصري وعضو هيئة تحرير مجلة "البيان" السلفية الصادرة في لندن، والمشرف العام على موقع (لواء الشريعة)، وقد حصل د.عبد العزيز كامل على درجة الماجستير في الشريعة الإسلامية من جامعة الإمام بالمملكة العربية السعودية، ونال الدكتوراه في الشريعة أيضاً من جامعة الأزهر الشريف في مصر، وله العديد من المؤلفات والمقالات المتنوعة. ومن كتبه "معركة الثوابت بين الإسلام والليبرالية"، و"أمريكا وإسرائيل.. وعقدة الدم"، و "العلمانيون وفلسطين"، و "العلمانية إمبراطورية النفاق"، وآخر كتبه "ستون عاماً من الفشل، وماذا بعد؟". السلفية.. منهج الصحابة والتابعين * بداية.. دكتور عبد العزيز.. هل تعطينا ملمحا سريعا عن مفهوم "السلفية"؟ - "السلفية" انتساب لسلف الأمة الصالح، و"السلف الصالح" -كما نعلم- هم الصحابة والتابعون وتابعو التابعين، فهذه القرون الثلاثة المفضلة هي التي شهد لها القرآن، وشهد لها النبي صلى الله عليه وسلم بالفضل والخيرية، في قوله عليه الصلاة والسلام: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)، فمنهج هذه القرون والأجيال الثلاثة هو خير المناهج، ونحن ندين لله عز وجل بأنه خير المناهج، فالنسبة إليهم -باعتبار المنهج- تشرف كل مسلم، وينبغي أن يستمسك بها كل مسلم. لكنني أرى أن الأولى في حال التسمية -وهذا رأي قد تختلف وجهات النظر حوله- أننا كإسلاميين، إذا احتجنا إلى توصيف ومسمى فالأفضل وصف "الإسلام"؛ لأنه الأصل: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ} [الحج: 78]، هكذا قال الله عز وجل، وهكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه ابن خزيمة والمنذري وغيرهما بإسناد صحيح: (ادعوا المسلمين بأسمائهم على ما سماهم الله: المسلمين المؤمنين عباد الله)، وهذا هو الأساس الذي لا نعدل عنه، إلا إذا اضطررنا إلى أن نتميز كطائفة قائمة على السنة عن طوائف أخرى من أهل القبلة قائمة على البدعة، فهنا نقول "أهل السنة والجماعة" وهذا أيضا مسمى شرعي مأخوذ من مجمل النصوص الشرعية. تجليات الزمن السلفي * باتت "السلفية" تشغل الحيز الأكبر من الحركة الإسلامية في العالمين العربي والإسلامي، بل رأينا تقارير كاملة تخرجها دوائر الاستخبارات الغربية حول المد السلفي في العالم، وذهب متابعون لتطورات المسيرة الإسلامية إلى أن مؤشر العالم الإسلامي دخل فيما أطلقوا عليه "الزمن السلفي"، وأن السلفية ستكون -إن لم تكن أصبحت بالفعل- سيدة الزمن القادم.. كيف ترى كل هذه الفرضيات؟ - بالنسبة للحديث عن "السلفية"، و"الزمن السلفي".. فأنا -مرة ثانية- لا أفضل أن تكون هذه التسميات والأوصاف -مهما كان شرفها، ومهما كان معناها الجميل- سببا أو عاملا في تفريق صفوف المسلمين. فإذا تحدثنا عن "السلفية" كتجمعات بالمعنى التصنيفي، وذكرنا من محاسنها كذا وكذا، وأنها نجحت في كذا وكذا، فلا شك أن هذا الكلام سوف يفهم من البعض على أنه غض من قيمة الآخرين، وإهدار لجهودهم، مع ما سيعنيه ذلك ضمنا من أن هؤلاء الآخرين ليسوا على منهج السلف، وهذا لون من التزكية للنفس مع البغي على الغير. ومن ثم لا نريد أن يُفهم الكلام عن "السلفية" بهذا المعنى التصنيفي المفرق، بل المطلوب أن يكون منهج السلف من الرموز الجامعة لا المفرقة؛ لأنه منهج يستعصي على الاحتكار، وصفا أو حملا، فكل توجه فيه من السلفية بقدر أخذه من منهج السلف، وإن لم يأخذ مسمى السلفية فلا يحق لأحد أن يلبس هذا الرداء للبعض ويخلعه عن الآخرين. لكن ومع هذا، فلا شك أن المنهج المبني على أصول السلف، والأقرب لما نقل عنهم، والذي ينتسب إليه تيار قوي داخل الأمة، لا شك أن هذا المنهج يشهد انبعاثا عظيما ومتصاعدا على كل المستويات، سواء على المستوى العلمي أو الدعوي أو السياسي، أو حتى الجهادي المقاوم في ظروف المقاومة المشروعة. وهذا ليس غريبا.. لماذا؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث المرفوع المروي عن أبي هريرة رضي الله عنه بإسناد صحيح: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)، فهذا الحديث يدل على سنة إلهية، دل عليها حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أن الله تعالى يقيض للأمة على رأس كل مائة عام من يعيدها إلى أصولها، مجددا لدينها، فتجديد الدين لا يمكن أن يأتي إلا من خلال العودة إلى منهج السلف، المنهج الصحيح، ولذلك يصح القول بأن جوهر الصحوة الإسلامية التي شهدتها الأمة منذ أوائل هذا القرن الهجري، كان ذا روح سلفية، بالمعنى المنهجي، فقد شهدت بداية هذا القرن تلك العملية التجديدية الشاملة، وصاحبها صعود وظهور وانتصار منهج السلف. خطيئة الأفغاني ومحمد عبده
|
يرى كامل ان المدرسة العقلية مخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة |
* قراءة سريعة لواقع الأمة تقول إن المشروعات الإصلاحية (من محمد رشيد رضا حتى الشيخ حسن البنا) أصبحت متعثرة بل تشهد تراجعا، وإن هذا التعثر ربما يمد السلفية بأسباب من القوة.. ما تعليقك على هذا الاستنتاج؟ - دائما أي فراغ يملؤه حملة أي توجه بقدر ما يعملون، فإذا كان هناك ضمور في فترة من الفترات في الجهد المبذول لنصرة منهج السلف، فلا شك أن المناهج الأخرى سوف تملأ ذلك الفراغ، وهذا ما حدث في الفترة التي شهدت تعاظم التيارات العقلانية الأشبه بمنهج "الاعتزال" وهي المعروفة بالمدرسة العقلية التي مثلتها مدرسة محمد عبده في مصر، ومنهجها -في نظرنا- مخالف لمنهج أهل السنة والجماعة في بعض معالمه الرئيسية، ليس لاحتفائه بالعقل، ولكن لإخفائه الكثير من هداية الوحي بدعوى تعظيم العقل، فهذا الفكر يعتمد العقل مرجعية أولى، ويرفع من منزلته إلى الدرجة التي ليست له، كما يقدمه على النقل، وهذا ليس من منهج السلف. وفي فترة من الفترات، وفي ظل ضمور الجهد المبذول لخدمة المنهج السلفي، وفي ظل قلة من يخدم هذا المنهج، وفي فترة من غربة الدين بوجه عام، كانت هذه فرصة لأن يُملأ هذا الفراغ باتجاهات أقرب إلى الاعتزال منها إلى الإسلام الصحيح المأخوذ عن السلف، فنشأت هذه المدرسة العقلية التي كانت بدايتها على يد (جمال الدين الأفغاني) الذي تدور الشكوك حول منشئه الشيعي، ولا يُختلف على أن منهجه فيه الكثير من الفلسفات الاعتزالية، وقد تتلمذ عليه الشيخ (محمد عبده)، ثم تتلمذ الشيخ (محمد رشيد رضا) على محمد عبده لفترة، وهذا أوجد انتعاشا للمدرسة العقلية في النصف الأول من القرن الميلادي الماضي، وهذه المدرسة يطلقون عليها أحيانا "المدرسة التنويرية" وكأن منهج أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ليس تنويريًّا، وهذا افتراء على الحقيقة، فالنور يحل في أي زمان وأي مكان بقدر الأخذ من نور النبوة، ولا شك أن السلف هم الأعظم أخذا من نور النبوة، ولهذا فقد بدأ النور يأتي إلى مصر مثلا في العصر الحديث؛ عندما تحول الشيخ محمد رشيد رضا إلى المنهج السلفي، وكان تحول رجل بهذا الوزن إلى الأخذ عن منهج السلف من كتب ابن تيمية وابن القيم وغيرهما؛ تأسيسا لمدرسة سلفية معاصرة في مصر، كانت تدين بالاحترام للمدارس السلفية الأخرى في العالمين العربي والإسلامي. وكان من ثمرات جهد الشيخ محمد رشيد رضا في خدمة العلم وربطه بالعمل، خاصة في ظرف سقوط الخلافة العثمانية، أن نشأت حركة الشيخ حسن البنا رحمه الله، ولا شك أن حركته كانت لها صلة بالمنهج السلفي في وجه من وجوهها، وهذا موجود في تعريف الحركة لنفسها. فالانتساب للمنهج السلفي أمر نسبي، يقترب ويبتعد بقدر ما يأخذ أي منهج من منهج السلف. وقد تفرعت جماعات كثيرة عن حركة الشيخ حسن البنا، ومنها بعض الجماعات السلفية نفسها، حيث بدأت حركة إحياء علمي ومفاهيمي، أضافت رصيدا ثريا لكل التوجهات الإسلامية، حتى صار من ثمرات التجديد على المنهج السلفي ما وصلنا إليه الآن من صحوة، لا أقول لفتت أنظار العالم، بل شغلته وأجبرته على التعامل معها طوال الربع الأول من القرن الهجري الخامس عشر، ونحن نرى آثار ذلك في مختلف المجالات. وبالمناسبة فأنا أرى أن جماعة "الإخوان المسلمون" التي تملك الكثير مما لا يملكه غيرها من الجماعات الإسلامية في العالم، تستطيع أن تملك أكثر وتحوز قبولا أكثر، إذا اقتربت أكثر من نهج السلف الذي يعد في الحقيقة منهج النبوة ومنهج الإسلام الصحيح، والدعوة إليه ليست دعوة للتبعية للآخرين، فمنهج السلف وأصولهم متاحة ومباحة للجميع، ولو أخذت منه جماعة الإخوان أو بعض فروعها بقوة، فلن يستطيع أحد أن يزايد عليها؛ لأنها ستكون في ذلك الوقت مالكة للمنهج والحركة والتنظيم والشعبية والرصيد التاريخي معا، أما إذا جرها البعض للبعد عن ذلك، فإن جميع ما لديها من ملكات وإمكانات في مصر أو في غيرها، يمكن أن يحوزه ويحرزه غيرها، ممن سيحمل هذا المنهج بشموله. * كلامك عن الإخوان وقربهم المطلوب من المنهج السلفي، يقودنا إلى السؤال: هل هناك مراجع سلفية ثابتة، الأخذ عنها يعد انتماء لمنهج السلف؟ وما أهم الكتابات التي تمثل إطارا مرجعيا يلتف حوله الإسلاميون، ويضع لهم لبنات البناء الفكري والعقدي والحركي؟ - لا شك أن منهج السلف وجد من يعتنون به وينقلونه إلينا، مثلما نقل هؤلاء السلف إلينا بأمانة منهج النبي صلى الله عليه وسلم، وما قاله وما فهمه وما بلغه من وحي الله عز وجل، فهناك أيضا من نقلوا إلينا ودونوا أفهام السلف للدين، وتفصيلات فقههم لنصوص الكتاب والسنة، وفي هذا بلا شك قوائم طويلة عريضة من كتب التراث العلمي في الأصول والفروع، ومن تقدير الخير أن أكثر الكتب والمراجع المتداولة بين الناس هي في جملتها كتب "سلفية" كتفاسير الطبري وابن كثير والإمام الشوكاني والبغوي وغيرها، وكذلك فإن المؤلفات المعتمدة والمتداولة بين الناس في العقيدة، هي كتب سلفية، كالكتب التي تنقل معتقد الصحابة والفرقة الناجية، وعقائد الأئمة الأربعة وغيرهم من الأئمة المتبوعين المتقدمين والمتأخرين كابن تيمية وابن القيم وابن رجب وغيرهم.. وتشهد على ذلك أرقام مبيعات معارض الكتاب الدولية في العواصم العربية، حيث تأتي كتب التراث دائما على رأس قوائم الكتب الأكثر مبيعا، وهو ما يضج منه العلمانيون ولا يفهمون له تفسيرا. كذلك تجد أن أكثر الكتب الشرعية المعاصرة المقبولة عند الناس، وكذلك المؤلفون الأكثر قبولا لديهم، هم من يستقون من تلك المراجع السلفية الأصيلة، ولذلك عندما تقولون بتعبيركم: إن هذا هو "الزمن السلفي" فإننا نتمنى ونرجو من الله عز وجل أن يعم هذا المنهج، وأن ينتصر وأن يسود على كل المناهج؛ لأنه في الحقيقة المنهج المرضي عند الله، والمقبول عند السواد الأعظم في الاتجاهات الإسلامية، في مقابل الاتجاهات الأخرى غير الإسلامية. |